| | التاريخ: تشرين الثاني ٤, ٢٠١٢ | المصدر: جريدة الحياة | | عن القمصان البيض والقمصان السود ووليد جنبلاط - سامر فرنجية |
مع بداية كل فصل سياسي جديد، تنبت على الساحة الإعلامية جماعة قديمة-جديدة، تعلن أن كيلها طفح من الأوضاع الراهنة وأن رفضها مطلق للاصطفافات الموجودة وأنها تنبذ الطبقة السياسية بأكملها (باستثناء السيد حسن نصرالله الذي يُستبدل رفضه عادة برفض النائب محمد رعد)، ومستنتجة أنها الخيار البديل والمنتظر والممثل الشرعي للشعب «غير الطائفي» أو «المقموع» أو «اللا ٨ ولا ١٤»، وهو الشعب اللبناني الطاهر الماقبل سياسي. هكذا أخذت تلك البدعة خلال السنتين الأخيرتين أشكالاً مختلفة، من مجموعة «١١ آذار» المدعومة من سندويشات الشاورما المجانية، إلى جماعة «إسقاط النظام الطائفي» تيمناً بالثورات العربية، وصولاً إلى مسيرة «القمصان البيض» الرافضة «للصراعات الطائفية والسياسية» وما يترتب عليها من قتل. لا بد من الاعتراف بأن الخيبة تجاه القوى السياسية التي تشير إليها تلك المحاولات تنمّ عن إحساس صادق وسليم في رفضه الانسياق الكامل وراء تلك القوى والبحث الدائم عن بديل أفضل مما هو موجود. كما أن محاولة القفز فوق عناوين السياسة الحالية والبحث عما يتمّ إغفاله من الطرفين سويةً يُوسّعان أفق السياسة ويعيدان بعض الحس المدني لما أصبح مجرّد مبارزة عسكرية. غير أن تلك الاستقلالية تتحول إلى رذيلة عندما تصبح مجرّد تحوير لعملية قتل إجرامي. فلا بد من الانتباه الى أن مقولة القتل بسبب «الصراعات الطائفية والسياسية» مقولة تبريرية تسحب من الجريمة طابعها السياسي، لكي تحولها إلى حدث شبه طبيعي ناتج من تكوين السياسة في لبنان، مثلها مثل الصراعات على التوظيف في الإدارة العامة أو الخلاف على القانون الإنتخابي (وعلى الأرجح فإن القاتل نفسه سيوافق على تلك الرواية). هكذا تزول السياسة وتضيع هوية الضحية وتختفي دوافع القاتل لتُميّع القضية في دهاليز الطائفية، وصولاً إلى النتيجة المنطقية وهي أن القاتل ضحية النظام الطائفي كما أن الضحية مسؤولة عن قتلها كونها جزءاً من هذا النظام. بهذا المعنى، يصبح وسام الحسن مرفوضاً مثله مثل ميشال سماحة، كونهما نتيجة هذا النظام الطائفي والسياسي وصراعاته. ولذلك ليس من الضروري استنتاج أي مغزى سياسي غير رفض النظام الطائفي وتحميل المسؤولية للطاقم السياسي بأكمله. بهذا المعنى، تلتقي تلك المقولة مع موجة التبريرات للقتل التي تطفو على السطح بعد كل جريمة. وتأخذ تلك التبريرات أشكالاً مختلفة من التحاليل الجيو-استراتيجية إلى التلميحات بوجود دوافع شخصية وصولاً إلى الترداد الهستيري لشعار انتظار التحقيق. وفي كل الأحوال، النتيجة نفسها: منع تسييس الجريمة لكي تصبح حدثاً طبيعياً يتعايش معه المجتمع وكأنه كارثة طبيعية لا بد من تحمّلها. مقولة جماعة القمصان البيض لا تختلف عن تلك التبريرات إلاّ في الشكل، بحيث تتحول إلى جزء من الجوقة المبررة لأعمال ميشال سماحة، بوصفه احدى «ضحايا» الصراعات الطائفية والسياسية في لبنان. يعود انزلاق القمصان البيض إلى موقع القمصان السود إلى خطاب تلك المجموعة، الذي يقع في تلك النقطة التي تتحول فيها الراديكالية إلى لا سياسة، والإحساس السليم إلى بذور لفاشية صاعدة. وهذه النقطة إنما يسكنها شعب لبناني طاهر وغير طائفي ورافض للاصطفافات يبحث عن مصلحة بلده الجامعة، لا عن الجماعات المنضوية تحت أحد اللواءين. وفي هذه النقطة، تتحول مقولة «الإستقلالية» إلى إجابة سحرية عن كل الأسئلة السياسية، فتسكت السياسة باسم طهارة المستقل، وتتهرب من التعاطي مع المسائل الفعلية، كمسألة الصراع مع إسرائيل والموقف من الثورة السورية وسلاح «حزب الله» ومنظومة الحكم في لبنان، باسم ضرورات وهمية تمجّد الحركة من أجل الحركة. لقد قفز المجتمع المدني وأصحاب مقولة «الرفضين» فوق الصراعات الراهنة، باحثين عن المشترك بين الخصمين مما يمكن رفضه باسم راديكالية قصوى. هكذا وجدوا حقيقة «الصراعات الطائفية والسياسية»، كمهرب راديكالي من السياسة، يؤمن لهم راحة البال وإن انتهوا مبررين غير واعين لقوى الإمر الواقع. والمفارقة أن الشاب إيهاب العزي أبدى فهماً أعمق لحقيقة السياسة في لبنان من منظّري هذا المجتمع المدني مجتمعين. كان من الأجدى لو بقيت جماعة القمصان البيض في منازلها واستمعت إلى المقابلة التي أجريت مع النائب وليد جنبلاط، الذي رســـــم خريطة طريق ســياسية لما يمكن أن يكون خطاً وســـطياً في لبـــنان. فمن دون المـــساواة المجرمة بين الطرفين أو تبني رواية طــرف ضد الآخر، ومن دون الهروب من الســـياسة أو قبول المعايير الحالية، حدد جنبلاط وجهة الســـياسة المستقلة التي تقتضي تحييد الساحة الداخلية من خلال تركيز الهجوم على النظام البعثي المتهاوي (وكان من الأجدى عدم الإجابة عن هذا الاقتراح عبر تغريدة لا معنى لها، والتــعمق بدلالته السياسية). هذا التسمع، لو تمّ، كان ليُضعف استقلالية المجتمع المدني (وربّما أجبره على الاستماع الى وئام وهــاب باســم الاستقلالية)، ولكنه كان أعطى بعض المغزى السياسي لتحركه. فكان في كلام جنبلاط ما هو أكثر مدنية مما في تحرك المجتمع المدني بأكمله.
| |
|