التاريخ: أيلول ٧, ٢٠٢٠
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
"هدنة" ليبيا... تزعج أنقرة وتعزز رهانها على باشاغا
سركيس قصارجيان
شكّل إعلان أطراف الحرب الأهلية في ليبيا التوصل إلى وقف لإطلاق النار في 21 آب (أغسطس) الماضي، "مفاجأة غير سارة" لتركيا، آخر العالمين بالاتفاق برغم كونها الطرف الأكثر فاعلية والأقوى تأثيراً على الأرض. 

وفي وقت توالت فيه بيانات الدعم من العديد من الدول والمؤسسات الدولية، بدءاً من الأمم المتحدة والجامعة العربية، مروراً بالمملكة المتحدة والدول الأوروبية والعربية من فرنسا إلى مصر والإمارات والسعودية، وإيطاليا، ساد الصمت أروقة الدبلوماسية التركية والأوساط الإعلامية، التي ظلت ترقب رد فعل "الباب العالي".

وبعد أكثر من 48 ساعة من "الصمت الإيجابي"، تلقف الإعلام التركي الرسالة. أنقرة، التي لم تعلم بالاتفاق، ليست راضية عنه، بدليل تجاهله في خطابات الرئيس الوفيرة وتصريحات وزير خارجيته المتتالية، فجاءت المقالة الأولى في موقع قناة "هابير تورك" الموالية لأردوغان، في 24 أغسطس/ آب، بقلم الصحافي التركي تشيتين تشيتينار، الذي أكد أن "الاتفاق لن ينجح، وسيؤدي إلي تقسيم ليبيا". مقابل كم من المقالات في الإعلام المعارض تحدثت عن "فشل جديد للسياسة الخارجية التركية في ليبيا" بعد كل من سوريا ومصر وشرق المتوسط. 

"عقاب" روسي لحفتر؟ 

قادت كل من الولايات المتحدة وزعيمة الاتحاد الأوروبي، ألمانيا، اتفاق وقف إطلاق النار بسلسلة لقاءات واتصالات علنية وسرية مع أطراف الحرب الأهلية الليبية وداعميهم، عدا تركيا، التي أقصيت من الجولات المكوكية لكل من وزير الخارجية الألماني والسفير الاميركي في ليبيا.

ويعود سبب هذا الإقصاء، لمعرفة الدولتين، ومعهما معظم الأطراف المعنية بالصراع الليبي، بموقف أنقرة الرافض لوقف إطلاق النار، والذي أعلن عنه بوضوح وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو، في رده على مبادرة السلام المصرية بالقول "هذا النداء أو التصريح ولد ميتاً بالنسبة لنا، لأنه ليس صادقاً وليس حقيقياً".
لا شك بأن المصالح التركية تتعارض مع باقي الدول المعنية بالملف الليبي، وذلك لكون سياسة أنقرة تعتمد على الاستثمار في الحرب الليبية بحد ذاتها لا بنتائجها، إلا بحال نجاح السراج في السيطرة على كامل الجغرافيا الليبية، وهو أشبه بالمستحيل.

فكرة يؤكدها لـ"النهار العربي" السياسي التركي المستقل والخبير في السياسة الخارجية الروسية والتركية، ايدن سيزير، قائلاً "تركيا مستاءة من اتفاق وقف إطلاق النار، نظراً لأن بنود الاتفاق تتعارض مع مصالحها"، مؤكداً في الوقت نفسه على كون الاتفاق مطلباً روسياً استخدمت موسكو العديد من السبل لتطبيقه.

ويشرح سيزير، الكاتب أيضاً في موقع "ميديا غوندام" التركي للتحليلات السياسية، أن "سيطرة حكومة الوفاق المدعومة تركياً على طرابلس كان في واقع الأمر رداً روسياً على مغادرة حفتر لموسكو من دون التوقيع على وقف إطلاق النار، حيث اتفقت روسيا مع تركيا وحكومة الوفاق بسحب عناصر شركة فاغنر الأمنية المتمركزة في محيط طرابلس إلى الجفرة، ممهدة الطريق أمام السراج للسيطرة على طرابلس، بدعم من الطائرات التركية المسيرة والمستشارين العسكريين الأتراك، لكن الفضل الأكبر في إنجاز السراج كان للانسحاب الروسي".

وحسب سيزير، فإن "المحاولات الروسية استمرت لإقناع الأطراف بالقبول بوقف إطلاق النار، حيث نجحت على جبهة حفتر، إلا أنها اصطدمت بمعارضة السراج ومن خلفه تركيا، فبدأت بإرسال الوفود التقنية الاختصاصية إلى تركيا لمفاوضتها مباشرةً، حتى وصل الأمر في النهاية إلى إعلان أنقرة قبولها بعدم جدوى الحل العسكري في ليبيا وضرورة الدفع بالمسار السياسي إلى الأمام".

ويعتقد سيزير أن "القبول التركي بذلك لم يكن عن قناعة، بل بسبب الرسالة الروسية الصارمة لأنقرة بأنها ستكون الطرف الخاسر في حال استمرارها في نهجها الرافض"، لكن هذا القبول، جاء متأخراً على ما يبدو، ما أدى إلى استبعاد أنقرة عن المشهد السياسي الليبي الأخير، وهو إقصاء قابلته تركيا باللجوء لـ"قلب الطاولة" وخلط الأوراق السياسية في الداخل الليبي.

تركيا تأمل حلاً عسكرياً

تركيا، حتى الآن، المستفيد الأكبر من الأزمة الليبية بحسب سيزير، من خلال الاتفاقات التي أبرمتها مع حكومة السراج، والتي حصلت بموجبها على ميناء بحري وقاعدة عسكرية، إضافة إلى مبلغ 8 مليارات دولار كوديعة في المصرف المركزي التركي دعماً لليرة التركية ولمدة 4 سنوات بدون فوائد، واتفاق الصلاحيات البحرية، التي روّجت لها تركيا كثيراً كجزء من مشروع "الوطن الأزرق" التركي، وجميعها اتفاقات أُعلن عنها رسمياً. بالمقابل، تحدثت تقارير إعلامية عن قيام "المركزي الليبي" بتمويل الحملات السياسية للرئيس التركي داخل بلاده وخارجها، كتقديم مبالغ نقدية للرئيس الإخواني محمد مرسي خلال فترة ما قبل حكمه لمصر وأثناءه، وتمويل مصاريف أعضاء الائتلاف السوري المعارض وغيرها.

الإصرار التركي على الحل العسكري للأزمة الليبية مرده في الدرجة الأولى الى السقف العالي للآمال التي أوهم أردوغان الرأي العام الداخلي التركي بها. فإلى جانب وعود تقاسم الثروات مع "الأشقاء الليبيين" وتولي الشركات التركية عملية إعادة إعمار البلد المنكوب، سوّقت الرئاسة التركية وخارجيتها والإعلام الموالي لها ليبياً على أنها حجر الزاوية في مشروع "الوطن الأزرق"، الذي بات البديل الوطني والعاطفي من الإخفاقات الاقتصادية الداخلية والسياسية الخارجية لأردوغان.

أصبح "الوطن الأزرق" الشعار الطاغي على الحوارات التلفزيونية والمقالات الصحافية، وجرعة عواطف وحماسة للمواطن المثقل بالهموم المعيشية، وسط مواصلة الليرة التركية خسارة قيمتها أمام الدولار، وتراجع الاستثمارات الأجنبية والحركة السياحية وإقفال العديد من الأسواق المجاورة والقريبة أبوابها أمام المنتج التركي، أو فرض قيود معرقلة لدخولها.

وحسب سيزير، فإن "موقع ليبيا في الوطن الأزرق هو ثانوي من الأساس، وليس بالوزن والأهمية التي تم التسويق لها، فبالنظر إلى خريطة الوطن الأزرق التركي، نرى بوضوح أن ليبيا هي أصغر ركيزة في هذا البناء، الذي لا يمكن أن يتحول إلى واقع من دون وجود اتفاق مع اليونان وقبرص ومصر وسوريا في الغرب والجنوب والشرق، وهو مستعبد حالياً".

مضيفاً "لذلك فإن الحديث عن أهمية ليبيا والاتفاق البحري مع حكومة السراج في إنشاء الوطن الأزرق، لا يعدو أكثر من محاولة حكومية لتبرير الانخراط السياسي والميداني في الأزمة الليبية للداخل التركي، خصوصاً أن الحكومة التركية فشلت، للمرة الأولى بتاريخ البلاد، في الحصول على إجماع برلماني لإرسال الجنود الأتراك إلى ليبيا، بعد رفض أحزاب المعارضة الثلاثة للاقتراح". 

في ضوء كل ما سبق، يبدو أن سياسة أنقرة المتضررة من وقف إطلاق النار في ليبيا ستتركز في المرحلة المقبلة على "تنقية" الجبهة الموالية له من العناصر المشوشة على خططها، وأولهم السراج، الذي لم يكتف بالإعلان عن قبوله وقف إطلاق النار من دون الرجوع إلى أنقرة، بل أتبعه بالتواصل مع باريس، العدوّ اللدود لتركيا اليوم في الناتو والاتحاد الأوروبي وشرق المتوسط.

أول ملامح هذه السياسة يمكن ملاحظته في التظاهرات المحقة في مطالبها، واللافتة من حيث توقيت خروجها قبل مرور أقل من 48 ساعة عن إعلان وقف إطلاق النار. فيما تؤكد زيارة وزير داخلية حكومة الوفاق فتحي باشاغا لتركيا من دون التنسيق مع السراج، وقيام الأخير بتعليق عمله في منصبه بداية، وتراجعه عن القرار لاحقاً تحت الضغط التركي، فرضية وجود محاولات تركية لإحداث انقلاب داخلي في جبهة "إخوان" ليبيا لضمان عدم خروج الملف الليبي عن سيطرتها بالكامل، برغم ضعف هذا الاحتمال في الوقت الحالي، نظراً لقوة رجلها الأول في ليبيا باشاغا العسكرية على الأرض من خلال ميليشيات مصراتة والزاوية، لكن تقرير الدفاع الأميركية حول التهديد الذي يشكله مرتزقة تركيا من السوريين للأمن الليبي قد يفتح الباب أمام سيناريوهات أخرى قد يكون وقعها مفاجئاً أكثر من التوصل إلى اتفاق ليبي من دون علم أنقرة مستقبلاً.