|
|
التاريخ: تشرين الأول ١٣, ٢٠١٩ |
المصدر: جريدة الشرق الأوسط |
|
انتخابات تونس تفرز «حكومة طوارئ» |
هل هي «المعركة الأخيرة» بين المحافظين والليبراليين؟ |
تونس: كمال بن يونس
أعاد الإفراج عن نبيل القروي، المرشح للانتخابات الرئاسية ورجل الأعمال المثير للجدل، خلط الأوراق وتسبب في بروز اصطفاف جديد بين الأطراف السياسية الفائزة في الانتخابات البرلمانية التي نظمت قبل أسبوع، قوامه تياران: تيار مناصر للقروي يصف نفسه بـ«الحداثي» و«العلماني» و«البراغماتي»... وتيار آخر يدعو إلى التصويت للأكاديمي والحقوقي قيس سعيّد يصف نفسه بـ«الثوري» و«المناوئ للفساد» و«المنحاز إلى مطالب شباب الثورة» و«الهوية الوطنية العربية الإسلامية».
وبينما بدأت في الكواليس المشاورات التمهيدية لتشكيل الحكومة الائتلافية العتيدة، التي تكون أولويتها «خطة طوارئ» اقتصادية، يتطلع صنّاع القرار التونسيون إلى نتائج الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية المقررة يوم غد الأحد 13 أكتوبر (تشرين الأول).
يتوقّع المراقبون والمحللون أن يعجّل فوز قيس سعيّد أو منافسه نبيل القروي بالانتخابات الرئاسية التونسية في تشكيل مشهد سياسي جديد. ويرى هؤلاء أن كلاً من الرجلين سيقود، أحدهما انطلاقاً من مكتبه في قصر الرئاسة في قرطاج، والآخر من صالونات المعارضة البرلمانية، حملة سياسية يراهن فيها على «خزّانه الانتخابي»... أي الشباب بالنسبة سعيّد والفقراء بالنسبة للقروي.
كذلك، يتوقع المراقبون والمحللون أن تكون المواجهات الانتخابية والسياسية الحالية في تونس بمثابة «المعركة الأخيرة» بين «الثوريين» و«أنصار النظام القديم»، وبين «الإسلاميين والعلمانيين»، وبين «المحافظين» و«الحداثيين الليبراليين».
فإلى أين تسير تونس في ظل هذه التجاذبات التي قد تحسم توجهات «الاستثناء الديمقراطي» التونسي بعد تدويل قضية إيقاف القروي بتهم تبييض الأموال والتهريب والتهرّب من الضرائب، وإقحام «لوبيات» مالية وسياسية وإعلامية أميركية وأوروبية... بل وإسرائيلية فيها؟
إفراج وصدقيةـ وتحفّظ
لقد رحّب نبيل بافون، رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس، والنوري اللجمي، رئيس الهيئة العليا المستقلة للإعلام، وغالبية رفاقها بالإفراج عن نبيل القروي رغم التهم الخطيرة الموجه إليه. واعتبروا أن مشاركته زوجته وأنصاره في حملته الانتخابية يضفي مصداقية أكبر على نتائج السباق الانتخابي نحو قصر الرئاسة والتنافس حول تزعم الحكومة المقبلة.
أيضاً، اعتبر عدد كبير من الخبراء والسياسيين والزعماء النقابيين، بينهم رئيسا نقابات العمال نور الدين الطبوبي ورجال الأعمال سمير ماجول وعميد المحامين إبراهيم بودربالة، أن الإفراج عن القروي عشية الاقتراع العام الأخير يمكن أن يعيد نوعاً من «التوازن إلى المشهد السياسي» في أعقاب فوز مرشّحي «حركة النهضة» وعشرات من السياسيين الإسلاميين الذين يقفون على يمينها سياسياً وفكرياً بغالبية نسبية قد تمكّنها من تشكيل الحكومة الجديدة بالتحالف مع العلمانيين «الثوريين» و«العروبيين» و«اليساريين».
إلا أن بعض الخبراء والنشطاء الحقوقيين العلمانيين، مثل جوهر بن مبارك، أستاذ القانون ورئيس جمعية «دستورنا»، انتقدوا كل أشكال التسامح مع القروي ومن يصفونهم بـ«رموز الفساد» منذ عشرين سنة. وتوقع بن مبارك وأنصاره في تصريحات صحافية أن يؤدي «سيناريو» فشل نبيل القروي في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية إلى «انهيار منظومة الفساد» – وفق تعبيره – وانتهاء الدور السياسي للقروي وتفكك حزب «قلب تونس» الذي أسسه مع مجموعة من المنشقّين عن حزب الرئيس التونسي السابق الباجي قائد السبسي خلال يونيو (حزيران) الماضي بعد خلافاته مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد وفريقه.
الحملة على القروي
جوهر بن مبارك، وعدد من المحامين القياديين في «حركة النهضة» بينهم البرلماني سمير ديلو، يتوقّعون أن يؤدي فشل القروي في السباق نحو قرطاج إلى استئناف التحقيق معه حول الاتهامات المالية والسياسية والأمنية الخطيرة الموجهة إليه، وبينها – وفق زعم هؤلاء – تبييض الأموال و«اعترافه» بإبرام عقود في بيته مع شركة «لوبيينغ» أميركية يتزعمها مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق آري بن مناش وتحويل أموال لفائدة شركته من حسابات مالية غير قانونية بالعملات الأجنبية خارج تونس. وكانت قناة يدعي فيه مقابلاته مع القروي وزوجته وشقيقه رجل الأعمال والبرلماني غازي القروي.
كذلك، انخرطت مجموعة من وسائل الإعلام ومئات المواقع الاجتماعية الشبابية والحقوقية المناصرة للمرشح الحقوقي قيس سعيّد في شن حملة ضد القروي وأنصاره وبعض نواب حزبه ممن يجري التحقيق معهم منذ سنوات بتهم الفساد المالي، بينهم رجال أعمال وسفيان طوبال الرئيس السابق لكتلة حزب قائد السبسي في البرلمان. كما بثت هذه المواقع والمجموعات الحقوقية، وبعضها يسارية وعلمانية مثل منظمة «أي ووتش»، فيديوهات تتهم القروي مجدداً بالفساد المالي والسياسي، وتزعم ارتباطه بعلاقات غير قانونية مع «لوبيات» يتهمونه بتهريب أموال لنيل دعمها في معركة السباق نحو قصر قرطاج. ولقد اعترف القروي، من جانبه، في حديث تلفزيوني بعد الإفراج عنه بمقابلة آري بن مناش، إلا أنه نفى بقية الاتهامات، ومنها التبعية المزعومة لـ«لوبيات» إسرائيلية أو السعي لتطبيع علاقات تونس مع تل أبيب إذا ما تولّى الرئاسة.
تخوفات من فوز المتطرفين
في المقابل، صدرت عن عدد كبير من الزعماء النقابيين والسياسيين والمثقفين والحقوقيين العلمانيين، مثل الإعلامي عبد اللطيف الفراتي والجامعية سلوى الشرفي والإعلامية آمال الحاج علي، تحذيرات من انتخاب قيس سعيّد لرئاسة الجمهورية. واتهم هؤلاء سعيّد بـ«التحالف مع (حركة النهضة)» ومع مجموعات من خطباء الجوامع والنشطاء السياسيين «المتطرفين» و«الفوضويين» و«المتشددين» دينياً الذين حصلوا على 25 مقعداً في البرلمان الجديد توزعت كالآتي: 21 عضواً لـ«ائتلاف الكرامة» بزعامة المحامي سيف الدين مخلوف و4 لحزب «الرحمة» بزعامة سعيد الجزيري.
ويشنّ نواب من حزب «قلب تونس»، بزعامة القروي، وقيادات من اليسار الماركسي مثل النائب السابق الجيلاني الهمامي، وصحافيون بارزون كلطفي العماري ومحمد بوغلاب ومريم بالقاضي، حملة ضد سعيّد والغالبية النسبية التي أفرزتها الانتخابات البرلمانية. ويحذر هؤلاء من «مخاطر دفع تونس نحو دوامة جديدة من المعارك الآيديولوجية بين العلمانيين والمتشددين دينياً». لكن المحامي سيف الدين مخلوف، المنسّق العام لقائمة «ائتلاف الكرامة» ونوابها الـ21 الجدد، نفى خلال مؤتمر صحافي عقده أخيراً، بحضور كل رفاقه، الاتهامات الموجهة إليه وإلى نواة كتلته البرلمانية، ومنها المطالبة بقطع العلاقات مع فرنسا وطرد السفير الفرنسي والدبلوماسيين الغربيين من تونس.
أيضاً، أعلن مخلوف أن الائتلاف الذي يمثله مستعد للمشاركة في الحكومة الجديدة شرط تعهدها بـ«محاربة الفساد الإداري والمالي والرشوة، وبوقف آلاف الإضرابات والاعتصامات التي تسببت في إفلاس كبريات المؤسسات العمومية التونسية وعلى رأسها شركة الفوسفات والأسمدة الكيمياوية». ونفى مخلوف ورفاقه صفة «التشدد الديني» و«التطرف يساراً أو يميناً» عن المرشح قيس سعيّد، وقال مخلوف إن غالبية الشباب والمهمّشين انتخبوا سعيّد في الدور الأول وسيعيدون انتخابيه «تقديراً لنظافة يديه ونزاهته وخبرته القانونية والسياسية والعلمية...».
استقلالية عن اليسار واليمين؟
في هذه الأثناء، دعا قيس سعيّد، الذي كان قد احتل المرتبة الأولى في الدور الأول للانتخابات الرئاسية، التونسيين إلى إعطاء أولوية مطلقة لمطالب الشباب العاطل عن العمل والمهمشين، والابتعاد عن الانخراط مجدداً في «المعارك الآيديولوجية والسياسوية». ثم أكد في تصريحاته على استقلاليته عن كل الأحزاب والكتل البرلمانية والتيارات السياسية، مشدداً على أنه «ابن الشعب وينتمي إلى الوطن وإلى الشعب». كذلك رفض سعيّد مقابلة قيادات كل الأحزاب ورؤساء القائمات المستقلة في الانتخابات البرلمانية والتقاط صور معها، بما فيها قيادات الأطراف اليسارية والإسلامية والقومية. وكل هذه الأطراف دعت إلى التصويت لفائدته في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية، ومنها «حركة النهضة» بزعامة راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو، والتيار القومي العروبي بزعامة زهير المغزاوي والصافي سعيد، والتيار الديمقراطي بزعامة محمد عبو وغازي الشواشي وحركة الوطنيين الديمقراطيين اليسارية بزعامة المنجي الرحوي وزياد الأخضر.
منطق ما بعد الانتخابات
لكن، هل يمكن أن تستمر المزايدات الكلامية والسياسية طويلاً... أم ستفرض مشاورات تشكيل الحكومة منطق «براغماتية جديدة» ومنطق «ما بعد الحملات الانتخابية»؟
تصريحات معظم السياسيين المعنيين بالمشاركة في الحكومة المقبلة ورئاسة البرلمان الجديد ولجانه المختصة تؤكد أن «شعارات القطيعة» التي برزت أثناء الحملة الانتخابية مرشحة لأن تختفي، بما في ذلك ما يتعلق بـ«القطيعة مع رموز المنظومة القديمة وحزب الباجي قائد السبسي الذي تصدر مؤسسات الدولة خلال الأعوام الخمسة الماضية»، وفق تعبير عبد الفتاح مورو، رئيس البرلمان بالنيابة ونائب رئيس «حركة النهضة».
ولم يستبعد محمد المسيليني، الفائز عن حزب الشعب القومي العربي مع 15 من رفاقه، وهم من المعارضين في الوقت نفسه للإسلاميين وللماركسيين، أن تشارك كتلته النيابية وحركته في الحكومة المقبلة بزعامة «النهضة» لكن بشروط... منها «خروج النهضة من لعبة المحاور العربية والإسلامية، وأيضاً، من جبهة الأطراف المعارضة لتطبيع علاقات تونس مع دمشق مجدداً». ولم يستبعد المسيليني أيضاً، أن تختفي تدريجياً تصريحات قيادات «النهضة» وحلفائها التي تبنت قبل أسابيع شعارات «ثورية» بهدف كسب ود الناخبين.
«أصدقاء» وشراكة قديمة
من جهة أخرى، رجح العجمي الوريمي، البرلماني ورئيس القطاع الثقافي في «حركة النهضة»، أن تشمل مشاورات تشكيل الحكومة الجديدة قيادة حزب «قلب تونس» بزعامة القروي ورفاقه الذين أورد أن جلّهم من بين «أصدقاء قيادة النهضة ودخلوا معها في شراكات خلال السنوات الخمسة الماضية عندما كانوا في حزب النداء بزعامة قائد السبسي».
وقلل الوريمي من تصريحات القروي ورفاقه، التي أعلنت مجدداً استبعاد المشاركة في الحكومة مع «ممثلي الإسلام السياسي» و«الإخوان»، واستطرد قائلاً: «حركة النهضة تطوّرت إلى حزب مدني تونسي يتمسك بدستور البلاد وقوانينها. لذلك ربطت علاقات صداقة وتعاون بين زعمائها وبينهم رئيسها راشد الغنوشي وممثليها في حكومات السنوات الثماني الماضية مع القروي وقائد السبسي وقيادات أحزاب اليمين واليسار» بينهم غالبية مؤسسي حزب «قلب تونس» الذي اصطف حوله أخيراً كثيرون من المنشقين عن حزب «النداء».
وفي الاتجاه ذاته، نشرت صحيفة «الشارع المغاربي» الليبيرالية المعارضة لـ«النهضة» تحقيقاً مطولاً تحت عنوان «علاقة بين راشد ونبيل: أسرار تكشف لأول مرة» استحضرت فيه مديرة الصحيفة الإعلامية كوثر زنطور صفحات من الشراكة القديمة بين الغنوشي والقروي ورفاقهما سياسياً واقتصادياً وإعلامياً في تونس وليبيا وتركيا وأوروبا.
رئيس حكومة مستقل
بالنسبة للقوى السياسية الأخرى، لم يستبعد محمد عبو وغازي الشواشي ورفاقهما في قيادة حزب التيار الديمقراطي اليساري المعتدل مشاركة حزبهما في حكومة ترأسها «حركة النهضة» إذا توافرت شروط، بينها محاربة الفساد في قطاعات الأمن والقضاء والوظيفة العمومية. غير أن عبو يشكك في جدية تلويح قيادة «النهضة» بالقطيعة مع المتهمين بالرشوة والفساد من بين حلفائهم السابقين في الحكم، وبينهم قيادات حزبي قائد السبسي والقروي. وروّجت أوساط سياسية وإعلامية متطابقة أن «النهضة» التي لم تفز إلا بـ52 مقعداً في البرلمان الجديد يمكن أن تقبل بتعيين خبير اقتصادي أو شخصية سياسية مستقلة «اعتبارية» على رأس الحكومة وفي وزارات السيادة إذا ما فاز «صديقها» قيس سعيّد بالرئاسة وترشيح زعيمها راشد الغنوشي أو أحد المقرّبين منه لرئاسة البرلمان. لكن الوزير السابق والبرلماني القيادي في «النهضة» سمير ديلو استبعد ترشيح الغنوشي لرئاسة البرلمان، وتوقع أن يبت في أسماء المرشحين للمناصب المهمة في الدولة بالتشاور بين الأطراف التي ستشارك في الائتلاف الحكومي الجديد والتي ينبغي أن تكون أولوياتها «خطة طوارئ تنموية اقتصادية اجتماعية» وخدمة الأمن القومي للبلاد.
بناءً عليه، هل إذا تشكل الائتلاف الحكومي على هذا الأساس تكون تونس أغلقت ملف «المعركة الأخيرة» ذات الصبغة الآيديولوجية بين الإسلاميين والعلمانيين، أو بين الحداثيين والمتشددين. |
|