التاريخ: شباط ٨, ٢٠١١
 
بعد تونس ومصر: هل انحسر دور الأحزاب السياسية؟ - بقلم أكرم البني

سؤال طرحته الأحداث المتسارعة في تونس ومصر وطابع التظاهرات والاعتصامات التي ظهر أنها جرت وتجري من دون قوى سياسية تتصدرها، وفي معزل عن الأيديولوجيات والبرامج الحزبية، ومن دون شخصيات كاريزمية تقودها.


لقد كان أمراً غريباً ولنقل غير مألوف تلك المسافة التي رسمها حراك التونسيين والمصريين مع القوى السياسية التقليدية، وكيف بدت هذه الأخيرة كما لو أنها تركض لاهثة لتلحق بنبض الشارع، حتى بات من الصعوبة بمكان أن يتبجح أي طرف سياسي ويدّعي أنه صاحب هذه الاحتجاجات الشعبية وراعي ما حصل من تطورات، من دون أن نبخس منظمات المجتمع المدني حقها وبعض النقابات والجمعيات المهنية، ما يعطي درساً بليغاً لكل القوى والتجمعات السياسية العربية، بأن لا مفر أمامها سوى الثقة بشعوبها وبطاقاتها الإبداعية الكامنة التي ربما تحتاج إلى مفاتيح خاصة كي تنطلق من قمقمها.


فما حصل في كل من تونس ومصر بدا أشبه بثورة شعبية عفوية لم يحضّر لها إرادياً ولم تخطط لها قيادات سياسية مسبقاً، ومقابل انحسار دور الأحزاب وبعضها عريق وتاريخي، أو لنقل ضعف فاعليتها في تحريك الشارع وقيادته، بدا تالياً الحضور اللافت لمجموعات شبابية تقدمت الصفوف وأمسكت زمام المبادرة، ونالت ثقة الناس بسلوكها اليومي المثابر واستعدادها العالي للتضحية.


مجموعات حديثة التكوين لا تنتمي إلى أي حزب أو تجمع سياسي، ليس عندها ما تخسره مع انسداد الأفق أمامها وتعاظم شعورها بالظلم وغياب العدالة، استعانت بفضاء المعلومات ومواقع التواصل الاجتماعي عبر شبكة الإنترنيت، لخلق مساحة من التفاعل في ما بينها ومع الآخرين، حول همومها المشتركة وسبل حل القضايا التي تشغلها وتتحكم بمستقبلها.


إن الفراغ الذي خلقته عقود طويلة من العمل السلطوي المبرمج الهادف الى تغييب السياسة في المجتمع وإقصاء أهلها، ثم ضعف الأحزاب المعارضة التي أنهكها القمع الشديد والاضطهاد، وأغلقت دونها نوافذ التفاعل مع الناس، عطفاً على ما تعانيه من أمراض ذاتية، كغياب روح المبادرة لديها، وتشتت إيقاع عملها الجمعي جراء حضور الحسابات الأنانية والمصالح الضيقة، كل ذلك وفر فسحة كبيرة لتقدم هذه القطاعات المحرومة والنشطة من المجتمع، كي تتنطح، بالأصالة عن نفسها وبالنيابة عن الجموع لنقد الواقع البائس الذي تعيشه والاعتراض عليه، مبدية حماسة كبيرة للتغيير وحساسية مرهفة للدفاع عن حقوقها ومصالحها.


صحيح أن تراجع تأثير القوى السياسية كان نتيجة طبيعية للمناخ السائد، وصحيح أن تحول الاهتمام بالأحزاب بتنوعاتها الإيديولوجية يعزى إلى فشلها عملياً في دعم الحاجات الأساسية للناس ونصرة تطلعاتها، لكن ثمة عوامل أخرى شجعت على تقدم فعاليات اجتماعية لتفعيل عملية التغيير وقيادتها، من أهمها:


أولاً، نقف في اللحظة الراهنة أمام جيل جديد ولد في ظل شروط استثنائية فرضت على العمل السياسي، لكنه نجح في الالتفاف على قواعد الصراع التقليدية وخلق مساحة اجتماعية حرة للتواصل وللتعبير عن مشاكله عبر فضاءات الانترنيت، متجنباً العمل المنظم وأساليب السرية والتآمر، ومتأثراً بتجارب الشعوب التي عاشت ظروفاً مشابهة وتمكنت من خلق أشكال متنوعة لرفض الواقع القائم والدفاع عن مصالحها وحقوقها.


ثانياً، نالت هذه الفعاليات حظها الخاص في النمو والتطور لأنها أقدر من الأحزاب في عبور الإثنيات والأديان والطوائف، بفعل حداثتها وتحررها من نتائج الصراعات القديمة وبفعل طابع المشكلات التي تشغل بالها وهي مشكلات ميدانية تهم الجميع وتتعلق بالمتطلبات المعيشية وقضايا الحريات والحقوق الفردية، أكثر مما ترتبط بالأيديولوجيات الكبرى وشعارات الهوية العريضة الدينية أو الاشتراكية أو القومية. ولا تخرج عن هذا السياق غالبية أحزاب الإسلام السياسي، التي لا تزال عموماً مشغولة بقضايا الهوية الدينية وتقف بشعاراتها الأيديولوجية الخاصة كـ «الإسلام هو الحل» وغيره، في تفارق مع الشعارات المستوحاة من معاناة الناس، أو لا يزال بعضها منشغلاً بآليات تعبئة متخلفة وخطيرة تتضمن التسعير الطائفي أو الشحن المذهبي كي يعيد إنتاج خصوصية حضوره وقوته!


ثالثاً، كان لشيوع ظاهرة العولمة وانهيار الأيديولوجيات والتصورات المسبقة عن العالم وطرق تغييره بصورة مخططة وإرادوية، دوره في منح الحراك الجديد قدرة على القيام بالأدوار التي تقوم بها الأحزاب السياسية بكفاءة ومرونة أكبر، هذه الأحزاب بدت بطيئة في قراءة المتغيرات الحاصلة والتكيف معها. وعجزت في غالبيتها عن التحول من حالة نخبوية إلى حالة جماهيرية.


رابعاً، نلمس اليوم تراجعاً ملحوظاً في أعداد من لا يزالون يحبذون خوض معترك العمل السياسي من الأبواب الحزبية، أو الذين لا تزال تجذبهم أفكار وعبارات تدّعي ملكية الحقيقة والصواب المطلق في ما تقوم به، وحين تتميز الأحزاب بهدفها الصريح وهو تأجيج الصراع السياسي والوصول إلى السلطة، فذلك يضعها في مرتبة أدنى من حيث إمكانية التعبئة والجذب من الحراك الشبابي الذي يميل إلى الاكتفاء بتشكيل أداة ضغط للتغيير ومراقبة للأداء السياسي من منظار حقوقه ومصالحه المباشرة، من دون أن يضطر للالتزام ببرنامج متكامل والدفاع عنه، بخاصة أن المعروف عن الشباب ميلهم الأصيل إلى تشجيع المبادرة والتحرر من أي قسر أو إكراه، أو من إلزامهم بمعتقدات محددة من دون نقد وبقرارات موجبة التنفيذ من دون اعتراض.


في الماضي كانت آليات التغيير تعتمد أساساً على القوى السياسية الأكثر انضباطاً، وقد عرف تاريخنا العربي مرحلة طويلة سادت فيها الأحزاب السياسية الشديدة التنظيم والحزم، ومهدت السبيل للانقلابات العسكرية حيث لعبت الجيوش الدور الرئيس في تقرير مصير المجتمعات ورسم خطوط مستقبلها، أما اليوم فربما لا نتسرع في القول إن الفعل التاريخي بدأ ينتقل إلى الشعوب والى آليات التعبئة الواسعة، وأن ثمة قوى من طراز مختلف بدأت في التبلور وتحاول من زاوية هذه الآفاق أن تقود العمل العام الشعبي والسياسي.


إن حصول تحول في طرائق تفكير الناس تجاه الأحزاب السياسية ودورها، لا يعني أبداً أنه لم يعد لها مكانتها المهمة في المجتمع وأنها قد تفقد وظيفتها العريقة في بناء منظومة القيم الموجهة للسلوك السياسي والاجتماعي والثقافي، وبلا شك قد تتمكن الأحزاب السياسية من العودة لتأكيد حضورها وفاعليتها مع شيوع أجواء الحرية واحترام التعددية والرأي الآخر، لكنها عودة قد لا تكون حميدة في حال لم تقف نقدياً من تصوراتها الأيديولوجية وبناها التنظيمية العتيقة وتتجاوز ما درجت عليه في دعايتها لأفكارها الخاصة نحو الثقة بالناس والتفاعل العملي مع همومها الملموسة وأوجه معاناتها.

* كاتب سوري