التاريخ: نيسان ٢٢, ٢٠١٢
المصدر: جريدة الحياة
رواية «دير شبيغل» عن القتيل السوري الذي يشتهي صورة قاتله - حازم الامين

من غير السهل أن يتحدث القاتل عن قتيله مهما كان قاتلاً، ذاك ان فعل القتل غير بديهي ويسبقه تصميم ينتصر فيه المرء على نفسه قبل ان ينتصر على ضحيته. وأن نقتل انساناً، حتى لو صور لنا أبليساً، نفعل ذلك في مواجهة تراكم هائل من القيم المُدينة لهذا الفعل. فالإنسانية راكمت ما يكفي من الخبرات بحيث صار المرء غير مستعد فطرياً للقتل.

 

لا يعني ذلك أننا لسنا قتلة، لكننا لا نتحدث عن قتلانا. نسعى جاهدين الى اخفاء الذئب في داخلنا. وصحيح أننا قتلة، لكننا لسنا قتلة طوال حياتنا، فهناك أوقات طويلة لا نكون فيها قتلة. يختفي الذئب في مكان ما، أو ينام، وأحياناً يموت. نصبح فعلاً غير قتلة، أثناء ذلك نحاول ان ننسى قتلانا، وما ان نستغرق في نسيانهم، حتى نصدق أننا لم نقتلهم، مدفوعين الى ذلك بحاجة جامحة الى ان نكون من غير القتلة. هذه الحاجة هي تماماً المادة التي راكمتها فينا حقيقة أننا كائنات اجتماعية.

 

وهكذا نبقى متخبطين بين كوننا ذئاباً وكوننا بشراً اجتماعيين الى ان تحين ساعة الكلام. وتتخلل هذه المراوحة كوابيس وهذيانات يشعر معها القاتل بأنه مسكون بقتيله، فيسعى الى الانتصار عليه او الى طرده، وبينما يميل الناس، من غير القتلة، الى الاعتقاد بأن القتيل ينتصر في هذه المعركة على قاتله ويحيله قاتلاً طوال الوقت، فإن ما يحصل غالباً هو ان القاتل ينتصر مجدداً، وذلك عبر نسيانه قتيله على نحو متعمد وقوي. ولا يمكن لقاتل ان يتوازن من دون ذلك.
 
هذا جزء من حوار أجراه قاتل مع نفسه، ومناسبة استعادته، الأحاديث التي أجرتها مجلة «دير شبيغل» الألمانية مع عناصر قالوا انهم من «الجيش السوري الحر» فروا الى مدينة طرابلس في شمال لبنان، وتحدثوا بسهولة عن عمليات قتل ارتكبوها وعن اقدامهم على قتل جنود و»شبيحة» تابعين للنظام السوري، كما أشاروا الى عمليات ذبح قاموا بها ودفن جنود أحياء.
 
لا تقتصر ركاكة الحكايات في قصة «دير شبيغل» على السهولة التي تحدث بها «القتلة» عن قتلاهم. ثمة عناصر في القصة كلها تدفع الى عدم الثقة بها، فمن يعرف منا مدينة طرابلس اللبنانية سيشعر عندما يقرأ القصة انه في مدينة أخرى، وذكر «الداعية السلفي» اللبناني مصطفى بكري في سياق استعراض الانسجام بين جنود «الجيش السوري الحر» الهاربين الى طرابلس وسلفيي المدينة يصيب بالحيرة. ذاك ان بكري مطرود من «جنة» السلفيين في طرابلس، ثم انه لا يخضع للإقامة الجبرية كما ذكرت «دير شبيغل». كما ان صحافياً أوفدته مجلة عريقة كـ «دير شبيغل» لا يمكنه ملاحظة ان ما زيّن به عمر بكري منزله ليس «آثاراً وتحفاً قديمة» انما مصنوعات شعبية يعرضها باعة المدينة على أرصفتهم، يمكن ان يفوته أيضاً ان من تحدث معهم ليسوا ذئاباً، انما نعاج كارهة لضعفها وساعية إلى التعويض خيالياً.
 
عندما تحدث «القتلة الافتراضيون» عن قتلاهم الى «دير شبيغل»، لم يرف لهم جفن. قالوا نحن قتلة، فقط قتلة! السؤال هنا عن ان حاجة القاتل الى ان يقول ذلك، وعن الدافع الى قوله ذلك، وإلى الإمعان في قوله، وإلى تنويع القول على نحو تصاعدي بين القتل بالرصاص والذبح وصولاً الى دفن الجنود أحياء، تنبىء بوظيفة ثأرية لهذا القول. والحاجة الى الثأر سببها شعور بالتلكؤ في القتل، او بعدم القدرة على الإتيان به. وهذا كان جلياً في رواية «دير شبيغل» عن جنود «الجيش الحر» الهاربين الى مدينة طرابلس.
 
من تحدثتْ إليهم المجلة في طرابلس ليسوا ملائكة، ومجتمع البعث أنتج ما يفوق المشهد الركيك الذي سقطت المجلة في فخه، عبثاً ورعباً، اذ ان الحاجة الى ادعاء القتل هي قتل مواز، وهي طموح الى القتل، وتماه مع القاتل الفعلي، ذاك الذي لا يتحدث عن قتلاه، والذي ينام الذئب في وجدانه الى جانب عديد الجثث التي أردى أصحابها.
 
كما ان الحاجة الى القول انهم ليسوا ملائكة لأن الثورة في سورية تحتاج الى حديث مواز عن قتلة موازين. فعلت ذلك الناشطة الشجاعة رزان زيتوني عندما وصفت مشهد تعذيب أقدم عليه «ثوار»، بأنه مشهد بعثي، وأن الاستبداد يجب ألا يتسلل الى الثورة.
 
نعم يجب ان يكون فضح الانتهاك من مهمات الثورة، تماماً كما يجب عدم السقوط في فخ الكذب بهدف ادانة النظام، فللأخير انتهاكات تكفي كي يُدان، في حين ان كذبة «بيضاء» من نوع قتل النظام ثلاثين طفلاً في مستشفى في حمص، أرخت بظلال من الشك حول اقدامه فعلاً على قتل 9 أطفال في اليوم الذي سبقه في ريف مدينة أدلب.
 
أجاب ناشطون في الثورة السورية عن سؤال حول مدى استعدادهم لإجراء جردة بـ «انتهاكات الثوار»، بأن الوقت سيحين لذلك، وأن الإقدام على ذلك اليوم سيمثل هدية للنظام ولحلفائه في الإعلام «اللبناني» كما قالوا.
 
الجواب ينطوي على ضائقة كبرى تكابدها الثورة السورية، ذاك ان خصومها على استعداد للاستثمار في «ملائكتها» كما في شياطينها. لكن الضيق الذي ينطوي عليه الجواب يكشف أيضاً خللاً في قيم الثورة، وضعفاً في حراكها. والمهم ان تنتقل صورة الشجاع في الوعي السوري من كونه ذاك المستعد لأن يقتل على ما مثله جنود «الجيش الحر» الهاربون الى طرابلس، الى كونه ذاك المستعد الى فضح القاتل وإدانته ولو كان من أبناء «الثورة».
 
هكذا فقط يمكن ان ينتصر القتيل على القاتل.