التاريخ: نيسان ١٩, ٢٠١٢
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
عندما تصبح الدولة فيديرالية طوائف - حسن منيمنة

مرور سبعة أعوام على انطلاقة ثورة الأرز، مع تحقق القليل القليل مما طمح إليه اللبنانيون، يطرح أسئلة جدية، ليس على الذين يناهضون مشروع الدولة واستقلال لبنان عن أية تبعية خارجية، قريبة أو بعيدة، بل على أصحاب المشروع أنفسهم.

هنالك مسافة واضحة بين ما تطلع إليه اللبنانيون في 14 آذار عام 2005، وحجم الإنجازات الذي حققته القوى التي رفعت رايته وتكفلت بتحقيق أهدافه. فالعصبية الطائفية آخذة في التضخم على حساب عصبية الإنتماء للوطن، وحس الإنتماء الجامع بين اللبنانيين آخذ في التقلص والضيق، وحالة الدولة ومؤسساتها تزداد تصدعاً وترهلاً، هذا فضلاً عن تردي مستوى الخدمات إلى حد أن اللبناني أصبح مهدداً في صحته بعد فضيحة اللحوم الفاسدة الأخيرة.


وإذا كانت الديموقراطية تقوم بحفظ كل من الفرد والدولة الجامعة والخصوصية، والتوازن بينهما، فإن أكثر ما بات يهدد هذه الديموقراطية في لبنان، هو الخصوصية الطائفية في وضعيتها المتضخمة، والتي أخذت تنمو خارج الدولة وعلى حسابها وتتغذى من ضعفها وتنتعش بموتها.


أمام دولة تُنتزَع منها تدريجاً أكثر مهماتها، ويتم تفتيت مؤسساتها، وأمام فرد لم يعد يملك فعلياً قدرة التأثير الفعلي والفاعل في اختيار النخبة السياسية الحاكمة واتخاذ القرار السياسي، بعد أن أصبح مأسوراً داخل طائفته ، بحيث تكاد سبل تعبير الفرد الخاصة تنعدم، أمام كل هذا، فإن السؤال الجوهري الذي يلح علينا بالإجابة: هل الأداء السياسي الحالي في لبنان، من أي طرف كان، يوصل فعلاً إلى بناء المجال العام الجامع، ويؤسس لمواطنية فعلية؟ بل السؤال الأهم هو: أي دولة نريد؟


ولا أدعو هنا إلى إيجاد البديل من اتفاق الطائف، الذي يبدو أنه أقام معادلة متوازنة بين حفظ الخصوصيات وطمأنة كل الأطراف، وبين إيجاد مجال سياسي عام عابر للطوائف، يقوم على تمثيل خال من  الدوافع الطائفية، وبناء تضامنات سياسية لا تلحظ مصلحة هذه الطائفة أو تلك بقدر ما تلحظ المصلحة العامة وسبل تعزيز الهوية الوطنية.


الذي حصل أننا بالغنا في مراعاة مصالح الطوائف، ونسينا الشق الآخر من المعادلة، الذي يؤدي تجاهله إلى تحويل لبنان الى فيديرالية طوائف، ويجعل مؤسسات الحكم أشبه بمجلس أعلى لممثلي الطوائف لا ممثلي الوطن والأمة... وكل حزب بما لديه فرحون.


من هنا فإن الدولة المدنية التي هي شعار الربيع العربي، تفتقد في لبنان ركنين أساسيين من أركانها: اولهما، التضامنات السياسية فوق الطائفية أي المجتمع المدني، وثانيهما الدولة الراعية للمصالح العامة والمستقلة عن هيمنة الكيانات الخاصة.


اننا بحاجة الى أن نستعيد من اتفاق الطائف ذلك الجانب الذي يجعل الدولة لكل اللبنانيين، لا مجموعة حصص تتقاسمها الطوائف، بحاجة إلى خلق الحيز اللاطائفي بعدما امتدت الطائفية لتصبح حالة شاملة في كل شيء تقريباً في لبنان: من الثقافة إلى الإنتماء إلى أطر التفكير إلى المسلك اليومي للناس. بحاجة إلى استعادة ساحات الاتصال واللقاء العامة التي يكون الشرط الوحيد للحضور فيها أن تكون لبنانياً.


ان إيجاد الحيز العام المتحرر من سطوة الطوائف والطائفيين، يكون من خلال الإستناد إلى اتفاق الطائف، كمرحلة انتقالية للوصول إلى المواطنة الكاملة والدولة المدنية الكاملة والديموقراطية الكاملة، وذلك من خلال أمور عدة:


أولها: البدء بإيجاد حالة توازن، بين التمثيل الطائفي والتمثيل اللاطائفي، بحيث يشعر المواطن أنه غير مهدد في خصوصيته من جهة، وأن بإمكانه التضامن والإشتراك مع لبنانيين آخرين في صناعة واقع سياسي وتضامني عابر للطوائف. ويتحقق هذا  من خلال جهازي تمثيل، أولهما مجلس الشيوخ الذي يضمن حماية ما وتوازنا ما للطوائف، وثانيهما مجلس النواب الذي يصير التمثيل فيه على أسس لا طائفية.


وكما هو معلوم، فقد اقر الطائف استحداث مجلس شيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية، الا انه اشترط ان يسبق هذه الخطوة قيام مجلس نيابي على اساس وطني لا طائفي وهو امر يبدو متعذرا في احوالنا الراهنة، من هنا الدعوة لتعديل دستوري يتيح استحداث مجلس الشيوخ قد يفسح في المجال لقيام مجلس نيابي لا طائفي بعد ان ثبت خلال 23 سنة ان العكس لم يتحقق. وهذه خطوة أولى لإيجاد مجال سياسي عام متحرر من الطوائف ومؤسساتها، وقادر على الحد من عبث ممثلي الطوائف بالدولة.


ثانياً: طرح قانون انتخابي يتيح للرموز والقوى السياسية الصاعدة أن تخترق هيمنة المحادل والقوى السياسية الكبرى، ويقلل من هيمنة المركزيات السياسية السائدة. وليس المقصود هنا مراعاة حسابات الربح والخسارة عند هذا الطرف أو ذاك، بل المقصود إيجاد حيوية سياسية ودينامية إجتماعية تساعد اللبنانيين على تفتيت المركزيات المتوحشة، و تفسح المجال للقوى الصاعدة والنخب الشابة والطموحات السياسية التي ترفض الإرتهان لهذه الجهة أو تلك. أي قانون انتخاب خال من منطلقات رقمية، بل مؤسس على مبادئ تراعي مسألة تداول السلطة، وإفساح المجال للنخب الجديدة بالظهور والتمثيل والتغيير أيضاً.


ثالثاً: البحث الجدي في إلغاء الطائفية السياسية، لا من باب الإبتزاز أو التخويف أو الكيد والمناورة السياسيين كما يفعل البعض، بل من باب الإنتقال بلبنان من حالة المراوحة، إلى حالة التحول الجدي والفعلي في اتجاه الديموقراطية.  لنقلها صريحة، لا ديمقراطية مع طائفية، بعد أن أصبح المواطن رهين طائفته، ولا قيمة لمفهوم الدولة عندما تتحول إلى فيديرالية طوائف، وتتحول السلطة إلى مجلس لممثليها. فالدولة بالقدر الذي يجب أن تراعي المجتمع وتدير شؤونه، عليها في المقابل أن تكون في تكوينها وبنيتها ووظيفتها ذات طبيعة عامة مستقلة عن أية خصوصية.


رابعاً: العمل على تعزيز المجتمع المدني، الذي يسمح بتشكل أحزاب سياسية ذات طبيعة طوعية وعابرة للطوئف. باعتباره الطريق الوحيد الذي يستعيد الفرد من خلاله فرديته في معزل عن انتمائه الثقافي الخاص،  ويوسع له حيز تحقيق كيانه ومجال تعبيره.


رهان روح 14 آذار، ليس في الغرق في مستنقع الجدل السياسي اليومي، بل في إحداث ثغرات في جدار الرتابة الحاصلة والإنسداد القائم، والعبور بالوطن من مجتمعات طوائفية متجاورة، إلى مجتمع لبناني تتصدر الهوية اللبنانية فيه كل الإنتماءات وتتقدم عليها. بذلك فقط، يبدأ الربيع العربي في لبنان، وينطلق مشروع الدولة، وتترسخ أسس السيادة، وتتعبد السبل لعودة الإنسان اللبناني العاشق لحريته، المعتز بعروبته.