التاريخ: نيسان ١٩, ٢٠١٢
المصدر: جريدة الحياة
 
أنقذوا السودان قبل فوات الأوان - بول سالم

في أوائل كانون الأول (ديسمبر) 2010، وقبل أن يُشعل محمد البوعزيزي لهيب الربيع العربي، كانت كل الأنظار الإقليمية والدولية شاخصة إلى السودان. فبعد سنوات طوال من الحروب والمفاوضات الفاشلة بين شمال وجنوب السودان، أدى استفتاء شعبي في 9 كانون الثاني (يناير) 2011، إلى انشطار هذا البلد إلى شطرين، وإلى قيام أحدث دولة في العالم: جنوب السودان.

 

كان المجتمع الإقليمي والدولي يدرك أن هذا الانشطار سيكون صعباً وقد يتطلَّب ديبلوماسية دولية مكثّفة لتحقيقه بأمان. فالبلَدان سيكونان في حاجة إلى الاتفاق على الحدود المتنازع عليها، وتشاطر موارد النفط، وتقاسم الدَين الوطني العام، وحل مسألة المواطنين في أراضي كلا الدولتين. وكل هذه الاتفاقات كان يجب أن تتمّ بين قيادتين انخرطتا في حرب ضد بعضهما البعض طيلة سنوات مديدة، وفي ظل حكومة سلطوية في الخرطوم كانت في حالة حرب مع العديد من سكانها لمدة عقود، فيما رئيسها مطلوب دولياً بتهمة ارتكاب جرائم حرب.

 

من نافلة القول أن الأحداث الدراماتيكية التي تجلّت في الربيع العربي، اكتسحت كل ما عداها من اهتمامات في العالم العربي، وهيمنت على المراقبين وصنّاع القرار في المنطقة وحول العالم. وهكذا، فما كان يُفترض أن يكون الاهتمام الإقليمي الرئيسي في عام 2011، انتهى بأن وُضع على رفوف التجاهل والنسيان.

 

وبالتالي، وكما كان متوقعاً، انحدر البلَدان اللذان انفصلا رسمياً في تموز (يوليو) 2011، بوتيرة سريعة نحو وهدة الصراع. فقد أدت نزاعات الحدود إلى مجابهات مسلّحة في منطقتي جنوب كردوفان والنيل الأزرق، وقادت الخلافات حول موارد النفط إلى انهيار شبه تام لإنتاج النفط، فعلّق الجنوب إنتاجه المقدّر بـ 350 ألف برميل في اليوم في كانون الثاني احتجاجاً على الرسوم المُفرطة التي يفرضها الشمال على نقل هذا النفط إلى البحر الأحمر. وجاء الهجوم الأخير على حقول هجليج النفطية في جنوب كردفان ليوقف نصف ما تبقى من الـ 150 ألف برميل التي ينتجها الشمال.

 

والآن، فأن البلدين اللذين كانا ينتجان مؤخراً نصف مليون برميل من النفط يومياً، لا ينتجان حالياً سوى أقل من 50 ألف برميل. وفي الوقت نفسه، كانت أسعار المواد الغذائية تتصاعد بحدة في الشمال والجنوب اللذين تعتمد موازنتهما في شكل كثيف على صادرات الطاقة. علاوة على ذلك، هناك نحو نصف مليون سوداني جنوبي في الشمال صنِّفوا بأنهم غير شرعيين. وقد علق آلاف منهم في المطارات الشمالية، بعد أن أُسقطت عنهم الوضعية القانونية ومنعوا من ركوب الطائرات المتوجهة إلى الجنوب.

 

ثم جاء استيلاء القوات الجنوبية الأسبوع الماضي على بلدة هجليج النفطية المتنازع عليها ليشعل فتيل الحرب. فقد أعلن البرلمان السوداني أن جنوب السودان بات دولة عدوة، وتم استدعاء الجيش لاستعادة هجليج بالقوة. ويبدو أن البلدين يتجهان الآن نحو حرب شاملة ستكون أكثر تدميراً بكثير من سابقاتها، لأن هذه لم تعد حرباً بين جيش نظامي وبين مجموعات مقاتلة. فالجنوب استثمر في الدبابات والمدفعية والحوامات، والأسلحة المضادة للدروع، ويحظى بأفضلية القرب الجغرافي من منطقة النزاع. والشمال يمتلك الدبابات والحوامات الهجومية، وطائرات الميغ وأنطونوف. وما لم يتم وقف الانحدار إلى الحرب، فإن هذه الأخيرة ستدمِّر السودان أكثر فأكثر، بعد أن كان هذا البلد في السابق أكبر وأكثر البلدان الواعدة بالازدهار في أفريقيا والعالم العربي. لا بل أن النزاع الجديد، وما قد يترافق معه من انهيار، قد يحوِّل السودان إلى صومال آخر، حيث تركض دولتان متهاويتان وراء سلطة وهمية، وحيث الميليشيات المسلحة تقيم مناطقها الخاصة التي تتغذى من الهويات الإثنية والقبلية، وتتسابق على موارد النفط.

 

لقد أصدرت الجامعة العربية والأمم المتحدة والدول الكبرى بيانات عدة تدين التصعيد الأخير، ودعت إلى وقف فوري للمواجهات. لكن، ما لم يحظ هذا النزاع باهتمام مركّز ومباشر وعالي المستوى، فإن الحرب ستستدعي مأساة إنسانية متجددة في السودان على نطاق ضخم.

 

يتعيّن على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والصين أن تعمل مع الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي لممارسة جهود منسّقة وكثيفة على الخرطوم وجوبا لوقف كل عمليات التصعيد العسكري فوراً. وبعدها يجب أن تُمنح فرصة لوساطة دولية جدّية تحرز تقدماً فعلياً على صعيد رسم الحدود، وإعادة التفاوض على اتفاقات تقاسم الموارد النفطية، وحل وضعية السكان النازحين. وفي الوقت عينه، يجب أن تُصر الأمم المتحدة على إعادة نشر قوات حفظ السلام على طول حدود المنطقة موضع النزاع.

 

لقد أثبت السودان في الواقع أنه مثال نموذجي لسوء إدارة التعددية الإثنية والدينية. فهو كان في حرب مع نفسه منذ استقلاله، وتنازعت حكومته مع شعبها في الغرب والجنوب والشرق، ما أدى إلى إزهاق أرواح الملايين. ثم إن حكومة الخرطوم هي من بين أسوأ نماذج الحكم في حقبة ما قبل الربيع العربي، حيث يتمّسك حاكم عسكري سلطوي بأهداب السلطة من خلال كوكتيل من عائدات النفط، والفساد والإفساد، والتلويح ببيارق الدين والقومية الإثنية.

 

حبّذا لو انتقل الربيع العربي من تونس عبر القاهرة إلى الخرطوم للإطاحة بالنظام الفاسد ولإحلال الديموقراطية والحكم الصالح، ولتجنيب السودان جولة إضافية من الإفقار والمتاعب. ثمة أمل عند البعض بأن الخسارة المُحرجة والمُربكة لجنوب السودان، والأزمة الاقتصادية والسياسية الراهنة التي أفرزها سوء إدارة العلاقات مع الجنوب، قد تدفع الشعب السوداني إلى الانتفاض ضد النظام، ولكن هذا أمر يصعب التعويل عليه.

 

بالطبع، إن العنف الذي يمارسه نظام الخرطوم منذ سنوات يوازي الانتهاكات الموجودة في حالات وبلدان أخرى في العالم العربي، إن لم يكُن أسوأ منها. وإذا ما كان المجتمعان العربي والدولي قد دفعا الرئيس اليمني علي عبدالله صالح إلى التنحي عن السلطة، وهما يحاولان الآن دفع الرئيس السوري بشار الأسد إلى أن يحذو حذوه، فإنه يجب بالتأكيد دفع الرئيس السوداني عمر البشير ليفعل ذلك أيضاً. ولذا، وبدلاً من استقبال البشير في القمة العربية الأخيرة في بغداد، كان يتعيّن على الجامعة العربية أن توضح بأنها لم تعد تعتبر هذا الأخير شرعياً، وبأن السودان يستحق رئيساً أفضل.

إن بلاد السودان تنحدر نحو هوة الحرب، ويجب على المجتمعين الإقليمي والدولي أن يعملا بسرعة وفي شكل حاسم لإنقاذ أرواح مئات الآلاف الذين أصبحوا، مجدداً، في دائرة الخطر. وقد يكون التغيير السياسي في الخرطوم، في نهاية المطاف، جزءاً لا يتجزأ من الحل.

 

* مدير مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت