تعتبر قضية الفلسطينيين واحدة من أعقد القضايا السياسية التي يواجهها العالم، وهي قد تكون القضية الوحيدة التي غطّت كامل القرن العشرين، وانتقلت إلى القرن الحادي والعشرين وهي ما زالت عند نقطة الصفر تقريباً (ربما باستثناء قضية الأكراد).
نعم، هذه القضية بقيت عند نقطة الصفر ولا شيء يدعو إلى التورية، أو ترويج الأوهام، على رغم وجود السلطة، فإسرائيل تسيطر على كامل أرض فلسطين التاريخية، والفلسطينيون إما لاجئون أو تحت سيطرة احتلالها وحصارها (كما في الضفة وغزة) أو يخضعون لسياستها التمييزية. وإسرائيل هذه ببجاحتها تريد من الفلسطينيين، أي من ضحيّتها، أن يعترفوا بها حصراً كدولة يهودية، وليس كدولة عادية، ما يعني الاعتراف بروايتها التاريخية، وبحقّها في الوجود، الذي تضمّن إزاحتهم من المكان والزمان، وحرمانهم من الوطن والهوية وامتهانهم، وربّما هي تريد منهم أيضاً، حتى الاعتذار عن تعكير عيشها ببقاء بعضهم فيها وبمقاومتهم لها!
لم يشفع للفلسطينيين عند إسرائيل أن قيادتهم أخذتهم نحو التسوية التي تتضمّن تنازلهم عن ثلثي أرضهم، ولا سعيهم لعدل نسبي توخّوه في حلّ تفاوضي لمختلف جوانب قضيتهم، فالمطلوب بالنسبة اليها ليس أقلّ من استسلامهم الكامل والمشهر والمكتوب، وهذا هو مغزى شرطها اعتبار قيام دولة لهم بمثابة إقرار منهم بانتهاء صراعهم معها.
منذ بدايتها لم تكن عملية التسوية واقعية ولا جدّية بالنسبة الى اسرائيل، ليس بسبب اختلال موازين القوى لصالحها، فقط، ولا لأنها لم تنضج إلى الثقافة التي تمكّنها من نبذ طابعها كدولة استعمارية وعنصرية، فحسب، وإنما لأنها لم تذهب إلى التسوية لحلّ مشكلة الفلسطينيين ولا لتسوية وضعها مع دول المنطقة. لقد ذهبت نحو التسوية لمجرّد التكيّف مع التحوّلات الدولية وتحسين صورتها في العالم وللتحرّر من عبء الفلسطينيين. هذا ما يفسّر الغطرسة والعنت الإسرائيليين اللذين فوّتا حتى فرصة السلام والتطبيع مع الدول العربية، بتجاهل اسرائيل «مبادرة السلام العربية» منذ عقد. وما يفسّر، أيضاً، مراوحتها في عمليتي التسوية والمفاوضة، والتي اقتصرت على مجرّد منحها الفلسطينيين حقّ إدارة أوضاعهم، مع إبقاء سيطرتها على الأرض والموارد والحدود والمعابر.
وباختصار، فإن إسرائيل تريد من التسوية التخلّص من الفلسطينيين باعتبارهم عبئاً اقتصادياً وأمنياً يثقل على موازنتها وعلى جيشها، والتحرّر منهم، كأنهم طارئون على المكان والزمان، باعتبارهم عندها بمثابة خطر ديموغرافي يهدّد مشروع الدولة اليهودية الخالصة خاصّتها، وباعتبار وجودهم يشوّه سلامة «الديموقراطية» الإسرائيلية.
المشكلة أن قيادة الفلسطينيين تورطت وغرقت في خيار التسوية المتمثلة في اتفاق أوسلو، ما يفسّر ضعف قدرتها على حسم خياراتها، أو الذهاب في المواقف التي تتّخذها إلى نهاياتها. وبالتأكيد فإننا في هذا السياق لا نتحدث عن الافتقار إلى الشجاعة، ولا عن الخشية من فقدان السيطرة، عند الطبقة القيادية الفلسطينية، وإنما عن افتقادها روح الإبداع والمبادرة، ويتضمّن ذلك إحجامها عن الذهاب إلى مروحة من الخيارات، والوصول إلى حدّ قلب الطاولة، أو تغيير قواعد اللعبة، أو الانتقال إلى خيار مغاير كلّياً.
ليس في ما ذكرناه مخاطرة إذ أثبتت تجربة العقدين الماضيين أن عملية أوسلو هي التي كانت بمثابة مخاطرة ومغامرة ومقامرة، حتى بالمقارنة مع أوضاع الفلسطينيين السياسية والاقتصادية والمعيشية السابقة في الضفة والقطاع، وهذا يشمل قدرتهم على التنقّل والعمل وحتى مقاومتهم للاحتلال، ويأتي ضمن ذلك إبداعهم شكل الانتفاضة الشعبية (1987ـ1993) قبل قيام السلطة، وقبل مجيء الفصائل والمنظمة إلى الداخل.
والحال فإن قيام كيان السلطة، على رغم ما مثلته من مداعبة لأحلام الفلسطينيين في قيام وطن ودولة لهم، إلا أنها تكشّفت أيضاً عن عبء يثقل على كاهلهم، ويكبح مختلف أشكال كفاحهم ضد الاحتلال، ويقسّمهم، ويحطّ بأهليتهم النضالية، ويصيبهم بلوثة السلطة والفساد، فضلاً عن انها شوّشت على قضيتهم أمام الرأي العام العالمي، بإظهار الصراع وكأنه بين بين حقّين متكافئين وطرفين متفاوضين!
ولنلاحظ أن قيام السلطة أدى إلى حصول تغيّرين مؤثرين وخطيرين، الأول، ويتمثّل في تحوّل جزء كبير من الفلسطينيين إلى العمل في أجهزة السلطة، الخدمية والأمنية، أي أن قسماً كبيراً منهم بات يشتغل خارج دائرة القطاعات الإنتاجية، أو القطاعات الاقتصادية المرتبطة بها، وهو تغيّر يفضي إلى تأثيرات سلبية على طريقة عيشهم وعلى مفاهيمهم السياسية. ومعلوم أن السلطة تعيل اليوم حوالى 120ـ 130 ألف موظف، وأنها باتت مرتهنة في مواردها لعطاءات الدول المانحة وللعوائد الضريبية التي تجبيها إسرائيل لصالحها، ما يعني أن هذه السلطة لاتستطيع الاستمرار من دون هذه الموارد.
التغيير الثاني، ويتمثّل في أن الفلسطينيين باتوا من الناحية السياسية ومن الناحية المعيشية في خضم حالة إشكالية، فهم في حال أرادوا تغيير خياراتهم، أو مقاومة املاءات إسرائيل (الاستيطان ـ الجدار الفاصل ـ الحصار ـ الاعتقال ـ تهويد القدس)، فإنهم غير قادرين في ظل أوضاعهم الحالية على حسم هذا الأمر تحسّباً لاستثارة ردود فعل لا يقدرون على تحمّل نتائجها من إسرائيل ومن الدول الغربية المانحة. بكلمة أخرى، فإن الارتهان المادي يجلب الارتهان أو الخضوع أو المهادنة السياسية، وهذه كلها تؤدي إلى تبديد الإرادة، ووهن الروح الوطنية، وشيوع علاقات اللامبالاة والفساد.
هذا يعني أن الطبقة السياسية السائدة (وهذا ينطبق ايضاً على سلطة «حماس» في غزة) باتت في مواجهة طريقين: فإما الحفاظ على وضعها كسلطة، وضمان استمرار مواردها المالية، مع ما لذلك من استحقاقات سياسية، وضمنها التنسيق السياسي والأمني، أو الخروج من هذه المعادلة وبالتالي تحمّل نتائجها وضمن ذلك احتمال خسارة مكانتها كسلطة، وفقدان مواردها المالية، التي تعزز شرعيتها وهيمنتها في المجتمع الفلسطيني.
هذه معضلة حقاً. فلقد باتت السلطة بمثابة عبء على القضية الوطنية، لكن هذا الأمر لا يتعلق فقط بالطبقة السياسية السائدة وإنما يتعلق بنمط عيش ثلثي الفلسطينيين في الأراضي المحتلة في الضفة والقطاع. ومثلاً فحتى حركة «حماس» تجد صعوبة في ضمان تشغيل مولّدات الكهرباء في قطاع غزة، وهي ترفع الصوت عالياً لأخذ حصّتها من موارد السلطة لتغطية رواتب سلك الموظفين المدنيين والأمنيين عندها. وهي بدورها دخلت في إطار لعبة السلطة، وضمنها التفاهمات المباشرة وغير المباشرة السياسية والاقتصادية والأمنية مع إسرائيل والتي تتضمن نوعاً من مهاودة ومهادنة.
ثمة مثل يقول إنك «لا يمكن أن تأكل الكعكة وتحتفظ بها في آن واحد»، المشكلة أن قيادة الفلسطينيين تنتهج هذه السياسة، فهي تصرّح بأنها ستغير المعادلات وتذهب نحو خيارات بديلة إلا انها لا تفعل ذلك حقاً، بل إنها حتّى لا تؤهّل ذاتها وشعبها لهذه الإمكانات. وقد شهدنا فصولاً من ذلك في «أنابوليس»، واستحقاق أيلول (2011)، وفي كيفية التعامل مع تقرير غولدستون، المتعلّق بارتكاب إسرائيل جرائم حرب في عدوانها على غزة، وفي التوجّه إلى مجلس الأمن لطلب الاعتراف بدولة فلسطين، وها نحن نشهده، أيضاً، في الرسالة التي يعتزم الرئيس الفلسطيني توجيهها الى رئيس حكومة إسرائيل.
مع ذلك وكي نكون منصفين ينبغي أن ننبّه إلى أن هذا الضعف الفلسطيني المزمن، على صعيد الفكرة والبنية والأداء، إنما هو نتاج عوامل أساسية عدة، ضمنها: احتساب إسرائيل في هيكل النظام الدولي على القوى العظمى المتحكّمة في العالم، واعتبارها ضمن إطار قوى الحداثة والتحديث والديموقراطية فيه، وافتقار الفلسطينيين، على تشتّتهم، إلى حاضنة عربية مناسبة، وتفوّق الإسرائيليين عليهم في موازين القوى والإدارة والتنظيم.
هكذا لن تضيف رسالة أبو مازن إلى نتانياهو جديداً. فقط هي ستضاف إلى سلسلة التجاذبات التفاوضية، التي تكشف عجز الفلسطينيين وضعفهم إزاء إسرائيل التي تحتل أرضهم وتصادر حقوقهم منذ عقود. لذا، ما لم يتغيّر هيكل النظام الدولي، وما لم تتغيّر الأحوال العربية، وما لم تنضج إسرائيل للتسوية، فإن الوضع سيبقى على حاله.
هذا ينبغي أن يحثّ الفلسطينيين على الالتفات جدياً إلى إعادة تنظيم أنفسهم، والبحث عن معادلة سياسية أخرى، أو عن بديل آخر، يعزّزون فيه مكانتهم وحقوقهم في صراع مديد ومعقّد.
* كاتب فلسطيني |