لم تتأخر تداعيات التدهور السريع في قدرة الفرعين المصري والتونسي من المدرسة "الإخوانية" على فهم طبيعة الزلزال الربيعي العربي. سمح ذلك بإعادة ظهور رموز النظام القديم في مصر، على نحو ينافس جدياً على الرئاسة "وكأنك يا بوزيد ما غزيت" كما يقول المثل الشعبي، في حين عادت الأجواء الثورية من البوابة التونسية لتتعامل مع اخوانيي "النهضة" على أنهم مشروع نظام أمني ميليشيوي لا ينفع بديلاً ديموقراطياً عن أحادية "حزب التجمع" المطاح به في ثورة الياسمين.
وقعت الحركة الإخوانية في مصر وتونس، وبسرعة قياسية في تبعات سوء تصرفها في الاشهر الماضية، فظهرت متواطئة ثم محاصرة من النظام القديم في مصر، وظهرت على انها النظام القديم ناقص هامش الحريات الخاصة في تونس.
السبب الاول لذلك ان محاكاة النموذج التركي لم تكن جدية، خصوصاً في مصر. بدأ "الإخوان" بتأسيس حزب "العدالة والحرية" على غرار "العدالة والتنمية" التركي، لينتهي بهم الامر الى رمي هذه الصيغة الشكلية جانباً عندما لم يتركوا لها، حتى صورياً، امر اختيار أو عدم اختيار مرشحهم للرئاسة. اما بشكل عام، فقد وجدوا انفسهم في الوسط: لا هم يستطيعون قبول طروح رجب طيب اردوغان، ولا وثيقة الازهر، بل يفتتحون معركة السيطرة على الازهر، ولا هم يستطيعون الذهاب بعيدا في مطلب تطبيق الشريعة، المعتمدة بشكل ملحوظ في التشريع منذ ايام الرئيس انور السادات، فلا يمكنهم ان يجاروا السلفيين في تأولها على انها تقتضي اقامة الحدود، ولا ان يجاروا من يدعو الى تطبيقها في اطار احياء الخلافة، أو اعتماد فقه "الحاكمية". في الوقت نفسه، بدلاً من ان يكون موقعهم في الوسط مدخلاً للوسطية، واغتنام تناقضات سواهم، فقد صارت تناقضات سواهم تفعل فعلها فيهم.
اعتقد "الإخوان" في مصر ان اكثريتهم الكاسحة في مجلس الشعب تغنيهم عن اي منطق تأسيسي قويم في مرحلة انتقالية تتطلب مشاركة الجميع في تحديد المعالم الدستورية للنظام المنشود. فاتتهم بذلك ان اكثرية من هذا النوع، في مرحلة انتقالية بهذا الشكل، لا يمكن ان تتحول الى اكثرية تأسيسية، بل ان حجمها سرعان ما ينقلب عليها. هو انتفاخ يغري بمزيد من الشراهة، وشراهة تصحو على صدمة. ما حدث معقد، لكن يمكنه ان يبسّط كالتالي: استراح "الإخوان" لأن لا منافس ليبرالياً جدياً، فإذ بالمرشح السلفي الشعبي جدا حازم صلاح ابو اسماعيل يستفز اطماعهم، كون شعبيته كانت صاعدة قبل الطعن بحقه في الترشح لحيازة والدته الجنسية الاميركية، فاندفع "الإخوان" رأساً لترشيح رجل الجهاز المتصلب خيرت الشاطر، غير الشعبي بحد ذاته، اي المعدوم الكاريزما، ونكثوا بكل وعودهم في هذا الاطار، مباشرة بعد عدم تقبلهم التعددية في لجنة صياغة الدستور، واصطدامهم بالازهر والكنيسة والليبراليين، في مقابل اعتمادهم فقط على خَطْب ودّ المجلس العسكري. وفي لحظة كهذه، تصاعد فيها الى اقصى حد منذ ثورة يناير، القلق على الحاضر والمستقبل. فكانت "ضربة من معلم": ترشح اللواء عمر سليمان، الذي نجح نسبياً في تسويق زهد بالسلطة طيلة السنة الماضية، ثم أحسن اختيار اللحظة المناسبة جداً للعودة، من باب المنافسة على الرئاسة. بطبيعة الحال، يتناقض اسم عمر سليمان مع معالم "الربيع العربي"، لكنه اختار اللحظة التي وصل فيها استهزاء اخوان مصر بالربيع العربي الى الذروة، والذي بان فيها عجز الليبراليين و"شباب الثورة" اكثر من ذي قبل، وزاد فيها الوضع الحرج للمجلس العسكري. بالتوازي، ينبغي الاخذ في الاعتبار ان حظوظ عمرو موسى، وبعده عبد المنعم ابو الفتوح عادت في هذه اللحظة بالذات تتصدر بعض الاستطلاعات، والله أعلم.
وفي تونس، بدل ان تكون الثنائية بين الاسلاميين والعلمانيين مدخلاً لتطور دستوري ديموقراطي رائد، ظهرت الحركة الاسلامية على انها تريد ان تسلب الناس باليسرى ما غنموه، وغنمته هي معهم باليمنى. بنت الحركة تصورها على ان ضعف الليبراليين والعلمانيين يتيح استكمال الفوز الانتخابي بتغيير الأسس البورقيبية للعلاقة بين الدولة والمجال الديني. وهنا وقع الخطأ: ارادت الحركة ان تحرم الناس مكتسبات النظام السابق من دون ان تقدم لهم ولو تصوراً عن المكتسبات البديلة.
وبتفسير طبقي، فإنّ المدرسة "الإخوانية" التي ازدهرت بفعل الطبقة الوسطى، البرجوازية الصغيرة المدينية أو النصف المدينية، في مصر أو في تونس، وجدت نفسها في شرخ مع هذه الطبقة. لانه لا يمكن ان تحرم الطبقة الوسطى مكتسبات استهلاكية أو استقرارية أو متنفسات حرية، من دون ان تعرض لها مكتسبات أخرى واضحة وسريعة. يضاف الى ذلك، ان لا قيادة كاريزمية استثنائية للحركة "الإخوانية"، في مصر أو في تونس، يمكن ان تقارن بما كان للامام الشهيد حسن البنا من وزن ودور وحنكة وبعد نظر وتفاعل حميم مع الطبقة الوسطى بشكل اساسي، ولا بما كان للامام الخميني. وغياب ذلك، يزيد من عدم قدرة الحركة الاسلامية "الإخوانية" في البلدين على تخطي نفسها يساراً أو يميناً. يمكن ان يُحكم قطاع غزة باسماعيل هنية ولكن لا يمكن حكم مصر بخيرت الشاطر.
|