التاريخ: نيسان ١٠, ٢٠١٢
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
تحولات السلطة في المجتمعات العربية: ليست انتفاضات ضد "الأب" - جون بورنمان

هذا المقال لأستاذ الانتروبولوجيا في جامعة برنستون جون بورنمان، والذي أرسله الى "قضايا النهار" هو جزء من نص أطول، وللكاتب ابحاث منشورة قبل سنوات، بينها كتاب حول "سلطة الأب" في تكوين النظم التوتاليتارية.

 

أطلقت الثورات في البلدان الناطقة العربية ديناميةَ تكوُّن المجموعات في البلدان الممتدّة من المغرب إلى دول الخليج. في سوريا، بدأت الثورة في مطلع آذار 2011. وهذه الدينامية مشابهة لما أطلقته مرحلة زوال الاستعمار، وتتشاطر معها الاعتماد على صلة القرابة. ولا تعني القرابة فقط مجرد نموذج من نماذج تنظيم المجتمع والسياسة، إنما أيضاً نموذجاً عن الرغبات اللَّيبيدية، وعن العلاقات التي تحوّل الاندفاع للعيش والتدمير أنماطاً جماعية. ليست القرابة أبداً مجرّد تنظيم الصلات على مستوى العائلة والعشيرة، كما أنها لا تقتصر على توسيع هذه المبادئ لتشمل العلاقات بين صاحب العمل والزبون، والمحسوبيات، والشبكات الفاسدة. وفيما يحاول أفراد المجتمعات العربية حلّ أنظمتهم السياسية، سوف يستبدلونها بأنظمة تستند إلى مصطلحات القرابة المحلية.


إذاً يجب الإشارة أولاً إلى أنه لا يمكن تسمية هذه الأزمنة الثورية أو هذه التحرّكات بأنها انتفاضات ضد الأب أو من أجل أي نظام أو قيادة محدّدة. يبدو أن الدافع وراء الاحتجاجات هو نداءات "كفاية" و"الحرية" أكثر منه ترويج أي فكرة محدّدة. الحرية شغف، تُفهَم في لغة الأم، إنها قبل كل شيء حرّية التحرّر من الأب المستبد، والنظام القديم الفاسد، والخوف الذي كان ذلك النظام قائماً عليه، إنما أيضاً الحرية للتواصل وبناء الروابط، والثقة، والشعور بالأمان في اتّحاد سامٍ مع الجماهير. غياب الأب هذا هو من الخصائص الأكثر لفتاً للأنظار في الانتفاضات.


الارتباطات الأفقية والصلات العمودية على المحك: الأفقي، أي علاقات المودّة والقرابة، ينتمي إلى لغة الأم - إنها علاقات شاملة وراعية وتتخيّل الوحدة والاكتمال؛ أما العمودي، أي العلاقات المتأتّية عن التحدّر السلالي، فتنتمي إلى لغة الأب - إنها علاقات هرمية يطبعها الاختلاف والإقصاء، إنما أيضاً حب الغرض، أي حب اقتناء الغرض أو تملّكه عوضاً عن الاكتفاء بالتشبّه به أو بها. وفيما تشهد الحكومات السلطوية تحوّلاً، ترتدي أشكال القرابة والارتباط والتضامن أهمّية قصوى في بناء الأمة الجديدة، وهذه الأمة الجديدة تنتمي إلى لغة الأم، وليس الأب.


لم يتمكّن القادة الذين وصلوا إلى السلطة في الحرب الباردة من التمتّع بشرعية لغة التحدّر الأبوي. فقد تصرّفوا في شكل أساسي كمستبدّين تقليديين، وتمسّكوا بالسلطة، كما يكتب عبدالله حمودي، من خلال احتكار العنف والإبقاء على "ثنائية قطبية جعلت منهم رموزاً للقداسة ومصدراً للعنف". تفوّقت العلاقات العمودية على العلاقات الأفقية. وأُلغيت الواسطة القانونية والمؤسّسية في علاقات السيطرة.


بيد أن اقتصاد السوق الحديث، في إصراره على إمكانية استبدال كل القيم، والديموقراطية الحديثة، في اعتمادها نظام "الصوت الواحد للشخص الواحد"، يستندان إلى مبادئ تتعارض مع، أو تتجنّب فائدة لغة الأستاذ-التلميذ أو لغة الأب-الابن. لقد قاومت أنظمة الشرق الأوسط مبادئ التبادل غير المحدود والفردانية الأحادية بدرجات مختلفة، واعتمدت بدلاً من ذلك على إعادة تأكيد المجتمع الأبوي ضمن لغة أمومية (اشتراكية في معظم الأحيان). بيد أن الشباب الذين نشأوا في ظل هذه الأنظمة تعرّضوا لاقتصادات السوق والديموقراطيات الحديثة على نطاق واسع، ووجد كثرٌ بينهم جاذبية في المبادئ التي تقف خلف الأولى أو الثانية.


ورث بشار الأسد السلطة الاقتصادية والسياسية من والده السلطوي، إنما لم يرث أيّ شرعية ثقافية. افتقاره إلى الشرعية الروحية وعجزه عن أن يكون أداة للتماهي الأساسي معه، ما عدا بالنسبة إلى الطائفة العلوية، يجعلانه غير قادر على الإطلاق على تحقيق الاندماج بين الانقسامات الداخلية المختلفة في صفوف السوريين. كان استخدام حافظ الأسد للقوة العسكرية ضد الشعب محط استياء، لكنه كان يُفسَّر بأنه دليل رجولية، أما استخدام بشار للقوة العسكرية فمؤشّر الى الضعف. في حين أضعف حكم آل الأسد السلطات الأبوية وولّد فراغات في هيكليات السلطة المحلية، سوف يتنافس أصحاب السلطة الأبوية المستضعَفون، وتحديداً آباء الأسر، وشيوخ القبائل الذين يتحرّكون عادة وفقاً للغة المزدوجة للأمة الدينية والأمة القائمة على النسب - سوف يتنافسون إذاً في المستقبل مع الشباب الذين يتقدّمون أيضاً لملء هذه الفراغات.


باستثناء الأسد في سوريا والملوك المختلفين الذين ورثوا السلطة من آبائهم، فشل كل القادة المعاصرين في المجتمعات العربية في نقل السلطة إلى أبنائهم، على الرغم من أن مبارك والقذافي حاولا ذلك. وفي هذه الحالات، أثبتت تكنولوجيا الانتخابات أنها لا تنفع القادة والأنظمة الحاكمة بقدر الآمال التي عقدوها عليها. لقد اضطُرّ القادة إلى تزويرها علناً. يبدو أنه إذا أجيز إجراء انتخابات حرّة في أيٍّ من هذه البلدان، فغالب الظن هو أن المرشّحين الإسلاميين الذين يدعمون نسخة ما من البرنامج السياسي لجماعة "الإخوان المسلمين" هم الذين سيسيطرون عليها في المستقبل القريب، كما حدث في تونس ومصر، ناهيك عن النموذج التركي.


عبر تطوير البرامج الاجتماعية الأكثر تماسكاً لتأمين الرعاية الشاملة من خلال المؤسسات الخيرية الإسلامية، والابتعاد إلى حد كبير عن تاريخ الفساد، لبّت التنظيمات الإسلامية الجوانب الأمومية في الأمة، كما أنها أظهرت في الوقت نفسه تعدّدية في الاعتراف بالاختلافات أكبر مما قد يوحي به خطاب القادة المحليين. علاوةً على ذلك، تحتكر المقدّس والالتباسات والتناقضات التي تحيط بالموت والحياة، ولذلك تُكلَّف إعطاء معنى للتضحيات الكثيرة التي تُقدَّم باسم الثورات. لكن كي تصبح هذه التنظيمات في موقع يتيح لها خلق أشكال جديدة من التضامن، لا بد لها من التوصّل إلى نوع من الاتفاق لتقاسم السلطة في ما بينها، ومع مجموعاتها الإتنية المتنوّعة - وهي مهمّة صعبة جداً نظراً إلى التنافس بين مفاهيم المقدّس والإلهي والعلماني في البلدان العربية.


تسلّم مقاليد السلطة في الدولة هو السبيل الوحيد كي يكون عنصر السلطة العمودية والنسَب حاسماً بالدرجة نفسها في صنع المجموعة. فيما تصبح التيارات الإسلامية أحزاباً سياسية، لا يكفي أن تتحوّل جحافل من الإخوة منظَّمة أفقياً، بل يجب أن تتحوّل أيضاً أحزاباً حاكمة منظَّمة عمودياً مع وظائف تنفيذية وتمثيلية مركزية ووسائل منظّمة للتعاقب على الحكم. حالياً، تحوّلت تونس، على غرار تركيا، ائتلافاً من الإسلاميين مؤلّفاً من أحزاب متعدّدة إلى جانب العديد من المجموعات العلمانية. لقد طوّرت الأحزاب الحاكمة في الدولتَين مفاهيم من أجل أمّة متكاملة ليس فقط بين إخوة متساوين رسمياً إنما أيضاً بين أشخاص منظّمين هرمياً ولا تجمع بينهم أي قرابة. وتقترح إمكان إجراء تحوّل ديموقراطي: من قادة سلطويين إلى تسلّم حركات مقاوَمة دينية معارِضة الحكم في ائتلاف مع جهات أخرى لا تفكّر بالطريقة نفسها.


تستند الديموقراطية مبدئياً إلى الانتخابات من أجل إضفاء شرعية على التغييرات في القيادة. تحتاج هذه الانتخابات إلى نوع جديد من أنواع المعارضة الشعائرية التي يستحيل ربطها بالخارج، والتي هي حكماً جزء لا يتجزأ من الجسم الاجتماعي - كما أنها أساسية لمفاهيم الشرعية الحديثة. في سوريا، تعكس الانقسامات داخل المعارضة تنوّع هويّات المجموعات في البلاد، وتشمل الانتماءات المستندة إلى الطبقة أو المهنة والانتماءات الإتنية-الدينية، والمجموعات التي تملك دائرة معارف واسعة ودعماً قوياً خارج الأراضي السورية.


مثلما زعم مبارك والقذافي والقادة المخلوعون الآخرون، تتكرّر المزاعم نفسها الآن التي تعتبر أن المعارضة لبشار هي دائماً معارضة خارجية وغير شرعية ومموّلة من الخارج. لكن بشار يتكلّم أيضاً من موقع وطني خاص داخل المجتمعات العربية، فهو قائد واحد من ثلاثة بلدان - إلى جانب مصر والعراق - تُعتبَر بأنها "القلب النابض للعروبة".  هذه الصورة التي تُظهر سوريا بأنها قلب الحضارة قادرة على دحض الخلافات الفئوية وتوحيد المجموعات المتعدّدة، لكن الواقع هو أن النزاع داخلي، وليس مع الجامعة العربية كعدو خارجي. الأمل الأفضل لبقاء النظام هو خوض حرب مع إسرائيل أو "الغرب".


لكن بما أن تلك الحرب غير واردة، على الأسد أن يلجأ إلى الانتخابات للحفاظ على اللحمة بين أفراد المجموعة في لغة الأم، لكنه لا يفهم الانتخابات إلا في إطار النفوذ والسلطة الأبوية. عندما ستتم إطاحته في نهاية المطاف، سوف تُبنى الديموقراطية الأبوية الجديدة (أستعمل تلك العبارة بلهجة تفاؤلية) حول تناقض: حكم هرمي يطغى عليه الذكور ويجب أن يضفي شرعية على نفسه من منظار أمة متخيَّلة في لغة الأم، وشاملة إنما غير متساوية.


ما هو نوع الجماعات أو المجموعات أو المرؤوسين الذين نتعامل معهم؟ ففي حين أنه لطالما كان شكل الدولة أمراً مفروغاً منه في أوروبا - باستثناء بلجيكا والبلقان - الوضع مختلف في بلدان الشرق الأوسط التي تتنظّم إلى حد كبير حول القبائل والمذاهب والانتماءات الدينية، وهي ثلاثة أنواع من المجموعات ذات أنساب مختلفة جذرياً، لكن كل واحدة منها تملك قدرة غريبة على التحوّل وتقمّص شكل المجموعة الأخرى. التنظيم القبلي مفيد جداً لبعض الأنظمة الحديثة، كما كان بالنسبة إلى آل الأسد في سوريا، نظراً إلى الرابط الذي يجمعه بالقرابة، ومبادئ السلالة الذكورية واستخدام النسَب لتحديد الأصول والمقدَّس في الأمة. تضيف المذاهب إلى الهويات القبلية معاني يتم الحصول عليها من خلال إعادة التأهيل الديني. وبما أن المذاهب والقبائل تنزع نحو زواج الأقارب، تطرح المجموعتان بعض العوائق أمام تخيّل أمّة وطنية.


قطع بنا بنديكت أندرسون شوطاً كبيراً في كتابه "أمم متخيَّلة" عندما اعتبر أن للأمة الوطنية علاقة بالعضوية والانتماء أكثر منه بمنظومة معتقدات أو أيديولوجيا محدّدة. كما أنها تعتمد على الشعور أكثر منها على الحجّة. وكونها شكلاً من أشكال القرابة، تشكّل عنصر جذب للأصول المقدّسة والصلاح. واليوم نستطيع بوضوح أن نرى العوائق أمام خلق هذه الأنواع من التضامنات الوطنية الجماعية، ولا سيما في الشرق الأوسط. حتى في الدولتَين الثوريّتَين في الأصل، الولايات المتحدة وفرنسا، يتبيّن أنه من الصعب الحفاظ على الاندماج. التضامنات الوطنية هي دائماً إما جزئية وهشة وإما تميل نحو الفاشية. وما يفتقر إليه عدد كبير من الرؤى المعاصرة هو تقدير لغة الأم في الجماعة.


كانت لغة الأم تلك حيّة جداً وراسخة في الرؤى الإسلامية للحكم في الشرق الأوسط. لكن هل كان ذلك مستنداً إلى وجود الإسلاميين في المعارضة؟ سوف يتوقّف نجاح حكمهم في المستقبل على قدرتهم على مواصلة العمل الذي يقتضيه هذا الإطار المرجعي مع السماح في الوقت نفسه بتعدّد الأفكار. ربما كان من المستبعد أن تتوافر الظروف الضرورية لقيام الدولة، مثل الاندماج في الاقتصاد العالمي من خلال هيكليات تنسّقها الدولة، في المجتمعات العربية التي تعيش الآن مرحلة من التحوّل. لكن ذلك التوقّع قد لا يكون أيضاً العنصر الحاسم في "الثورات التكاملية" التي نشهدها الآن.