على رغم أنني أكتب عن التاريخ السياسي للشرق الأوسط في شكل رئيسي، لا مفرّ من أن يتمّ سؤالي عمّا يحصل في المنطقة حالياً وعمّا سيحصل في ما بعد. وأجيب بداية بأنّ ذلك لا يعني المؤرّخ الأكاديمي. ومن ثمّ أردف بالقول إنني لستُ أعرف أكثر ممّا أسمع على الراديو وأقرأ في الصحف. وفي حال تمّ الإلحاح عليّ، قد أقرّ بمدى حاجتي إلى الصحافيين. لكن هل هذا يعني أنّ ما أقول أو أكتب يختلف قليلاً عن الصحافة التي تعدّ أحياناً كلمة غير لائقة في الحياة الأكاديمية؟
من الواضح أنّ الصحافيين الذين يعملون في ميدان الحدث يشكّلون آذاننا وأعيننا. ومن الواضح أيضاً أنّ عملهم خطر أحياناً لا سيّما حين تنخرط المدن وأحياناً المجتمعات الشرق أوسطية في العنف الذي يرافق حالياً الربيع العربي. كيف يمكننا معرفة معنى تحمّل القصف اليومي في حمص أو صنعاء؟ كيف يمكننا إدراك معنى مواجهة شرطة مدجّجة بالسلاح في ساحة القصبة التونسية؟
لا شك في أنّ أفضل التقارير وأكثرها إفادة تأتي من النساء والرجال الذين أمضوا بضع سنوات في مناصبهم الحالية ويملكون علاقات محلية جيّدة ويعرفون تماماً طبيعة الأسئلة التي يجب طرحها. فإلى جانب هذه الخبرة التي اكتسبوها، أصبحوا يفهمون البنية القائمة والطريقة التي تسير فيها الأمور ويعلمون ما يتوقع حصوله في ما بعد إلى جانب معرفة المكانة التي تحتلها العشوائية والحادث والشخصية والعلاقات الشخصية في الشؤون البشرية. ومن ثمّ يترتّب على القارئ أن يستنتج المكانة التي تحتلها هذه الأمور ومعناها.
رحتُ أفكّر بكلّ ذلك في ضوء مؤتمر رائع نظمته الصحافية الإيطالية المستقلة باولا كاريدي في مركز هارفارد للدراسات الشرق أوسطية حول الوضع في قطاع غزة. فقدّمت شهادة شخصية قائمة على مقابلات تكشف عن الاحتمالات والمخاطر والفرص التي تواجه لاعبين ضعفاء على الساحة الدولية فيما يحاولون القيام بأفضل الخيارات على صعيد المطالب المحلية وخطط إعادة البناء الواسعة النطاق ومجموعة التحالفات الجديدة المحتملة التي قد تحلّ مكان التحالف بين سورية وإيران. هذه هي المسائل التي يرغب أيّ شخص غريب في معرفتها لا سيّما عن موضوع مهمّ هو كيفية محاولة حكم قطاع غزة اليوم.
كيف لي من موقعي كأكاديمي أن أجيب عن هذا السؤال؟ أولاً أتساءل ما الذي حلّ بوعود المساعدة التي قطعها الأوروبيون والأميركيون والدول العربية الثرية؟ أجابتني الصحافية أنه على حدّ معرفتها وصل القليل منها إلى قطاع غزة. ومن ثمّ أحاول معالجة كل المعلومات التي تلقيتها حتى أستخدمها في التعليم وفي النقاش مع زملاء آخرين.
لكن في هذه اللحظة بالذات، يبدو أنه يجب القيام بأكثر من ذلك مثل محاولة التمييز بين ما تمثله شهادة باولا كاريدي وجوابي الخاص. يبدو أنّ الإثنين يحتلان أهمية كبيرة. أولاً فيما ينظر الصحافيون إلى التاريخ الحالي ويهتمون بما يحصل الآن وبما من المرجح حصوله في ما بعد، يميل المؤرخون إلى العودة إلى الوراء لتحليل الأحداث الحالية بناءً على ما حدث في السابق. ثانياً، على رغم أنّ الصحافيين والأكاديميين يلتزمون في شكل كبير بمفهوم كارل ماركس الشهير القائل إنّ البشر يصنعون تاريخهم، لكنهم يصنعونه في ظروف أمليت عليهم، يركّز الصحافيون على «الرجال» الذين يشكلون جزءاً من هذه المعادلة فيما يهتم الأكاديميون بـ «الظروف».
بالتالي، لا تحتاج المهنتان إلى بعضهما بعضاً فحسب ولا يجب اعتبار الصحافيين والأكاديميين شركاء في العمل نفسه القائم على التعلّم واكتشاف معنى الأمور فقط، بل إنّ ذلك يبدو ضرورياً حين تجرى العمليات التي أطلقها الربيع العربي بسرعة فائقة من دون أن يلوح أي حلّ واضح وفوري في الأفق. لحسن الحظ، ثمة إطار عمل مشترك للفهم نابع من المفهوم القائل إنّ ما يحصل يشكّل ما يشبه الثورة ويتميّز على غرار الأحداث الثورية الأخرى التي حدثت في العالم بنضال لإنشاء نظام جديد قائم على الدساتير وعلى الانتخابات التنافسية.
ويبدو مفهوم الشراكة مهمّاً في ما يتعلّق بتأليف الكتب. عادة، لا تكون الكتب التي يضعها الصحافيون بمتناول يد عامّة الشعب وتخلّف وقعاً كبيراً فحسب بل تميل إلى أن تصدر في شكل أسرع أيضاً. وينطبق ذلك على كتاب جون ريد بعنوان «عشرة أيام هزت العالم» (الصادر عام 1919) الذي كتبه بسرعة فائقة بعد أن شاهد الثورة في روسيا في سانت بترسبورغ في تشرين الأول (أكتوبر) وكتاب الصحافي الراحل أنتوني شديد بعنوان «يقترب الليل» (الصادر عام 2005) الذي يروي فيه تجربته في بغداد في أولى مراحل الاحتلال الأميركي البريطاني. ويحتاج الأكاديميون من جهتهم وقتاً أطول بما أنهم يهتمون أقل بالتجربة الفردية أو حتى بالمقابلات ويركزون كتاباتهم على المصادر المكتوبة بما فيها الوثائق الحكومية التي يصعب الوصول إليها ومعالجتها.
ثمة نيات مختلفة وطرق مختلفة وأحياناً أسئلة مختلفة لكن ليس بالضرورة جمهور مختلف. واليوم بالتحديد، بعد فترة صعبة لمحاولة تفسير سبب بقاء أنظمة الحكم التي يديرها الحكام الديكتاتوريون الطاعنون في السن في كتابي الجديد «صعود الرؤساء العرب مدى الحياة وسقوطهم»، أنا مسرور جداً بسقوطهم المفاجئ وغير المتوقع، علماً أننّي أعتمد في شكل كامل على تقارير الصحف والتقارير الأولية حين أحاول تفسير هذا السرور أمام طلابي وزملائي الأكاديميين المترددين أحياناً. فالثورات الحقيقية والتي تصنع مباشرة على الهواء على مرأى من الجميع لا تندلع كلّ يوم.
* أكاديمي بريطاني - جامعة هارفارد |