التاريخ: آذار ٢٦, ٢٠١٢
المصدر: جريدة الحياة
في تلازم الدولة والديموقراطية - كرم الحلو

بسمارك ينفذ جزءاً من عملنا، فألمانيا موحدة ستكون أكثر تقبلاً للتحول نحو الاشتراكية من ألمانيا تتنازعها مئات البلاطات. هذا ما قاله ماركس مبرراً تأييده بسمارك في توحيد ألمانيا على رغم عدائه الشديد له وإدانته طغيانه وسياسته الاقتصادية والاجتماعية. يحضرني موقف ماركس إزاء السياسات المتطرفة التي تذهب إلى حد الدعوة المحمومة إلى حرب أهلية في سورية واستدعاء التدخل العسكري الأجنبي بذريعة فرض الديموقراطية. خيار جُرّب في لبنان وكاد يودي به وطناً وشعباً وتاريخاً، وطبق في العراق فأعاده إثنيات متنازعة يصعب تصور حد لنزاعاتها يبقي على وحدة البلد ومناعته الوطنية وانتمائه القومي، وطبق كذلك في ليبيا وكانت نتيجته ما نراه من تمزق ونزاع يهددان وحدتها ومستقبلها ويبيحان ثرواتها الطائلة للمطامع الأجنبية من جديد.
 
العبرة في كل ذلك في رأينا في خطأ الرهان على التناقض بين الدولة والديموقراطية والفصل بينهما، وتصور أن الديموقراطية يمكن أن تقوم على أشلاء الدولة ومن دونها، انطلاقاً من قراءة خاطئة للدولة وللديموقراطية في معنييهما الحداثي وانتمائهما إلى سياق تاريخي وفلسفي واحد. فقد جاءت كلتاهما في سياق تاريخي غير مسبوق عرفته أوروبا في القرون الخمسة الأخيرة وأنجب مفاهيم سياسية واجتماعية جديدة، من بينها مفاهيم الوطن والدولة القومية والديموقراطية والعقد الاجتماعي وحقوق الإنسان، وقد تبلورت جميعها في ترابط جدلي وثيق بحيث لا يمكن الأخذ بواحد منها دون الآخر وبمعزل عنه، ما رتب علاقة تلازمية بين الدولة الوطنية وبين الديموقراطية المؤسسة على العقد الاجتماعي، وبصفتها خياراً طوعياً بين مواطنين أحرار متساوين في المواطنية والحقوق. الأمر الذي لم يكن ممكناً التفكير فيه من قبل هذا السياق التاريخي الذي صهر العصبيات الأهلية، القبلية والطائفية والمذهبية واللغوية والجهوية في الدولة الوطنية التي ليست سوى البديل الحداثي للتكوينات الفسيفسائية ما قبل الدولتية.

 

من دون الدولة في رأينا لا يمكن تصور أي تحول ديموقراطي في العالم العربي، خصوصاً في بلدان غير متجانسة بل شديدة التنوع إثنياً مثل لبنان والعراق وسورية، ففي كنف هذه الدولة يجب أن يتم الانتقال إلى الديموقراطية، أما الرهان على إسقاطها من خلال استثارة مكوناتها الإثنية وتذريرها إلى هذه المكونات، فمآله الارتكاس إلى ما قبل الدولة وما قبل الديموقراطية على السواء، والانكفاء إلى عصبويات أهلية لا تمت بصلة إلى الدولة ولا إلى الديموقراطية.
 
لطالما راهن الاشتراكيون العرب على بناء الاشتراكية على أنقاض الدولة، دولة «الطبقية السائدة» التي لا بد من إسقاطها لإقامة مجتمع العدالة والمساواة الطبقية بقيادة «البروليتاريا» التي تمثل سواد الأمة الأعظم، فكان أن اكتشفوا متأخرين أن التاريخ لا يمكن غصبه، وأن التطور الاجتماعي لا يتحقق إلا داخل الدولة وبالتفاعل معها تفاعلاً إيجابياً. ولطالما راهن القوميون العرب على بناء مجتمع الوحدة القومية على أنقاض الدولة القطرية «دولة التجزئة المصطنعة» فاستفاقوا على خواء أدلوجاتهم وتهافتها ليلفوا تلك الدولة كياناً صلباً متجذراً في الواقع والتاريخ، عصياً على الاستئصال بأوهام الأيديولوجيا. فهل سيسقط الديموقراطيون العرب حيث سقط الاشتراكيون والقوميون فيراهنون على إنجاز التحول الديموقراطي العربي بإسقاط الدولة؟ رهان خاسر هو الآخر يضاف إلى كل تلك الرهانات الأيديولوجية الخائبة.
 
* كاتب لبناني