ينبغي أن لا تمرّ مرور الكرام المعركة التي اندلعت بسبب كتاب التاريخ اللبنانيّ. فنحن، هنا، لسنا أمام وجهتي نظر إيديولوجيّتين، يمينيّة ويساريّة مثلاً، بل أمام وجهات نظر طائفيّة كلّ منها تعكس حساسيّة جماعة ما ورؤيتها إلى العالم المحيط.
في هذا المعنى، فإنّ أخطر ما تشير إليه تلك المعركة أنّ المنتصر يريد أن يكتب التاريخ كما يريد، غير عابئ بتاتاً بوجهات نظر الجماعات التي يزعم الرغبة في العيش إلى جانبها.
لكنّ هذا الاستثمار الجلف والبالغ الأنانيّة لتوازن القوى العسكريّ يفوته أنّ التاريخ لا يقرّره توازن القوى المذكور، وأنّ الأفكار والحقائق تنتمي إلى سويّة غير السويّة التي تنتمي إليها القوّة. وهذا التناقض نفسه سبق أن وقعت فيه أطراف ودول كثيرة أرادت للثقافة، بمعناها العريض، أن تخرج من فوهة البندقيّة.
والحال أنّ الاستسلام في هذه المواجهة، أو العزوف عن خوضها، يفضيان إلى أمر خطير للمستقبل، هو السماح لتوازن القوى بأن يتسلّح بالأفكار ويبرّر نفسها بها، ثمّ أن يفرضها ويعمّمها على ضحاياه أنفسهم. فإذا أمكن طرد هؤلاء الضحايا من التاريخ والأفكار، بعد طردهم من السياسة، لم يعد هناك إلاّ العنف وسيلة للتعبير عن الاحتجاج على الظلم والتهميش. والمعنى الوحيد لذلك هو نهاية ما تبقّى من لبنان، إمّا على شكل حروب أهليّة لا نهاية لها، أو على شكل تقسيم أمر واقع. هكذا ليس من المبالغة القول إنّ الدفاع عن تاريخ لبنان وتعدّديّته هو دفاع عن لبنان ذاته.
لقد عبّرت معركة كتاب التاريخ عن النوازع التوتاليتاريّة في شكلها المحلّيّ. وكتّاب التاريخ "الجديد" كانوا في هذا أوفياء للتوتاليتاريّين أينما كان، ممّن يزعمون امتلاك الحقّ والحقيقة كلّهما، ولا يعترفون بأيّ جزء من الحقّ والحقيقة لسواهم. لكنّهم كانوا أيضاً أوفياء لجيراننا المستبدّين في سوريا، ومن قبل في عراق صدّام حسين، حين كانت "القضيّة" هي المصدر الذي تنبثق منه الحقيقة والمعارف.
ولا بأس بالقول إنّ "قضيّة" إبقاء لبنان بلداً متعدّداً وتعدّديًّا، يمارس حياة سياسيّة وحرّيّات إعلاميّة، تفوق بلا قياس كلّ تلك "القضايا" التي بات يفحّ منها الضجر والإضجار، ولا يترتّب عليها سوى تمكين الاستبداد والطغيان وتصغير العقل العامّ، ومن ثمّ إرجاعنا عشرات السنين إلى الوراء.
وفيما السوريّون يقاتلون اليوم حكّامهم المستبدّين ويبذلون حياتهم في هذه المعركة ضدّ تجّار "القضيّة"، لن يكون كثيراً على اللبنانيّين أن يتظاهروا ضدّ هذا الشكل من الاستبداد المقرف الذي يتهدّدهم باسم "القضيّة" نفسها.
|