التاريخ: آذار ١٦, ٢٠١٢
المصدر: جريدة الحياة
مفقودو التاريخ في لبنان...- سامر فرنجية

منذ الطائف، إن لم يكن من قبل، هناك بحث عن تاريخ تُجمع عليه الأطراف السياسية في لبنان، يمكن أن يشكّل أداة انصهار للمجتمع المفتّت. ينطلق البحث من فرضية أن التاريخ، وهنا المقصود مادة التاريخ المدرسية، يؤمن حداً أدنى من المشترك الضروري عبر إنتاج عصبية وطنية تُضعف الولاءات المحلية. ويحوم حول هذه الفرضية عدد من الكليشيات مفادها أن من يجهل تاريخه محكوم بإعادته، ما يصبغ هذا البحث باضطرارية إنسانية وأبعاد أخلاقية.
 
يأتي هذا البحث المستميت عن تاريخ موحَّد وموحِّد على تقاطع مسارات ضعف الدولة اللبنانية وهشاشة مجتمعها وميثولوجية الدولة المستوردة من نماذج الدول الحديثة. فمع انتهاء حقبة الإستعمار وبداية مرحلة التحديث السياسي، انتشرت تلك الميثولوجيا وطقوسها في العالم الثالث، من علم للبلاد إلى نشيد وطني مروراً بجيش نظامي وتاريخ رسمي. وتمسّكت أنظمة ما بعد الكولونيالية بهذه الرموز، كبرهان على استقلال شكّك به الكثيرون وممر إجباري إلى عالم الدول. غير أنه سرعان ما فقدت هذه الرموز رونقها، وتحولت دلالاتٍ لمآسي الدول الجديدة. هكذا تبين أن الأمة المشار إليها من خلال تلك الطقوس منقسمة، إن لم تكن غير موجودة أصلاً. وتحول التاريخ الثوري مقدمةً لأنظمة عائلية وفاسدة، إن لم تكن مجرد أداة قمعية وإجرامية.
 
أخذ هذا السياق التاريخي شكلاً مختلفاً في لبنان، البلد الذي لم يوهم نفسه يوماً بأنه وطن جدّي، رغم أيديولوجياته الفارغة. فمنذ نشأتها، لم تستطع الدولة اللبنانية حماية استقلالها عن مجتمعها وبقيت رهينة وفاق الطوائف وممثليها. فقدت رموز الدولة كل فعالية رمزية أو وجود مجتمعي، وضاعت في فضاء من الفولكلور «الضيعجي» من جهة وعمليات تفريغ سياسية من جهة أخرى. منع هذا التكسّر الإجتماعي الإنزلاقات القمعية التي طاولت دول المنطقة، لكنه حوّل الدولة اللبنانية إشارة باهتة لأمة غير موجودة، لا تفرض على أبنائها رواية تاريخية موحّدة أو أي متطلبات أخرى.

في تلاقي تلك المسارات، باتت قضية كتاب التاريخ تطرح نفسها دورياً.

 

وفي الآونة الأخيرة شهدنا فصلاً من فصول هذه المسألة. فبعد الاتفاق على منهج شبه موَّحد لكتاب التاريخ، عادت الحكومة الجديدة وألغت بعض المقاطع، مترجمةً الإنتصار السياسي الحالي إلى حقيقة تاريخية: ألغيت، مثلاً، الإشارة إلى «ثورة الأرز»، عملاً بقول وزير الثقافة كابي ليون من أنه «لا يوجد شيء اسمه «ثورة أرز» وهي حصلت بأمر من الخارج وإسمها اخترعه الأميركيون… ولن تذكر بكتاب التاريخ وهي تكلّلت بحملة «فل» وهي تجربة سقطت ولم تنجح، وبالتأكيد لا أعترف بها». وعليه، عاد النقاش إلى نقطة الصفر والبحثُ عن رواية جامعة إلى بداياته. ومع تعثر المشروع، بدا مدى تباعد الروايات الحزبية أو الطائفية. فبينما يطالب «حزب الله» بحصة تدريس عن مقاومته، معمقاً قبضته الإحتكارية على هذه الكلمة، تطالب القوى المسيحية بحصة منها، وبضمّ مقاومتها «اللبنانية» للمنهج الدراسي. ويمتد الخلاف على باقي المحطات السياسية، محولاً عملية إنتاج الكتاب عملية تفاوض لا نهاية لها.

 

تواجه مسألة توحيد الكتاب معضلتين متعلقتين بإنتاج تاريخ رسمي. الأولى مرتبطة بكيفية ترقية آراء أطراف سياسية مرحلية وعابرة إلى مرتبة حقائق تاريخية، تُدرّس لأجيال مستقبلية. فمن يفاوض على الكتاب ليس قوى منزلة، بل تجمّع أطراف ناتج من ظروف موقتة، قد لا تبقى نفسها بعد بضع سنوات، فضلاً عن أن الخلاف لم يحسم في لبنان، محولاً التفاوض على التاريخ استكمالاً للصراع الدائر.
 
غير أن السبب الأساسي للفشل المتكرر بنيوي، ومرتبط بالدور المزدوج المنتظر من هذا التاريخ. فنحن نريده تاريخاً واقعياً وحقيقياً، يؤمن حداً أدنى من المعلومات ويؤسس لمعرفعة فعلية للماضي. ولكن نريده أيضاً تاريخاً فعّالاً، ينتج إنصهاراً ومجتمعاً موحَّداً، عملاً بمقولة أن الحقيقة تحرر. هذا التسييس للتاريخ الرسمي ليس جديداً، بل شكّل إحدى أدوات بناء القوميات في أوروبا، كما أرّخ لها البريطاني إريك هوبزباوم. وبناءً عليه، تحوّل البحث في لبنان عن تاريخ رسمي مرادفاً أكاديمياً لبناء الوحدة الوطنية السياسي.
 
لكن، وكما نبّه هوبزباوم وكثيرون بعده، نادراً ما يكون التاريخ الموحَّد والموحِّد ديموقراطياً أو قائماً على الوقائع فحسب. فهو تاريخ مخترع ومركّب وقائم على استبعادات عديدة وطمس لروايات محلية. ذاك أن أحادية الرواية الرسمية ناتجة من هذا الإقصاء والتناسي، وليست مجرد تعبير شفّاف عن واقع ما. وقد بدأت منذ السبعينات في أوروبا، على الأقل، محاولات لتوسيع هذا التاريخ ليضّم أصواتاً قُمعت في الروايات الرسمية أو للإعتراف بأخطاء الماضي. وما نشهده اليوم من نقاشات في فرنسا أو بريطانيا عن الهوية والتاريخ ليس إلا دلالة على هذا العمل التفكيكي للتاريخ الرسمي.
 
من هذا المنظار، تصبح أزمة الإتفاق على كتاب تاريخ إشارة ليس فقط إلى مجتمع مفتت، بل إلى دولة غائبة وضعيفة. فالهدف السياسي للكتاب الموحَّد لا يتطلب دقة تاريخية أو إجماعاً مجتمعياً، بل قمعاً مؤسسيّاً، يستطيع فرض رواية رسمية على الذاكرات المحلية. وكما أظهرت التجربة في لبنان، لا يمكن الإستعانة بالديموقراطية للتعويض عن هذا النقص القمعي. فمهما ضممنا من روايات في هذا التاريخ، يبقى فقدان المرجعية الفارضة له عائقاً أمام أي دور لهذا المنهج الدراسي.

 

أمام تلك الاستحالات، يمكن التفكير بتاريخ بديل، أكثر تلاؤماً مع دور الدولة الفعلي. فأمام عدم قدرتها على توحيد المجتمع أو حتى تمثيله، ربّما كان الأنسب التفكير بالدولة كممثلة لضحايا ذاك المجتمع، بحيث تجد في هذا الدور أساساً لاستقلاليتها المفقودة. والتاريخ المنبثق من هذا الدور ليس التاريخ الرسمي كما نفهمه، أي التاريخ التصاعدي الذي يؤرخ لتطور مجتمع موحَّد، بل هو تاريخ مآسٍ وضحايا وتاريخ منسيي الروايات الرسمية العديدة. وفي وجه تواريخ الطوائف وممثليها المكتملة والمتنافرة، يأخذ التاريخ الرسمي دوره السياسي، ليس من خلال تجميع وتوحيد تلك الروايات، بل من خلال الذهاب إلى مستوى آخر، يشكّل قاعاً مشتركاً وإن كان منسياً، لجميع هذه الروايات المحلية.

 

فبدل الصراع على من يجب أن يكون جزءاً من هذا التاريخ وكيف، يتحول التاريخ الرسمي تاريخ ضحايا تلك الأسئلة، وتفتح صفحاته للمفقودين والمنسيين من ضحايا عنفه وعنصريته. وإذا لم نتفق على من يجب أن يكون بطله، فلتفتح الأبواب لتمثيل أصوات مَن يعانون كل يوم من حاضر هذا البلد، من لبنانيين وأجانب، تناستهم الروايات المتصارعة. ونتيجة تاريخ كهذا لن تكون إنصهاراً وطنياً كما يفهمه سياسيو البلد، بل نوع من الحساسية تجاه العنف والعنصرية والظلم، ما يمكن للدولة الضعيفة أن تمثله في وجه عجرفة الطوائف وممثليها.
 
حسنة لبنان أنه بلد غير جدّي. لهذه الخفّة إيجابيات، أهمها إمكانية اختبار طرق جديدة لمقاربة التاريخ. والأجمل أن لا ثمناً لتلك التجارب في ظل فشل المقاربة التقليدية لهذه المسألة. فالابتعاد عن عظمة التاريخ، للبحث في تجارب بديلة، ليس انتقاصاً منه، بل إحترام له ومحاولة لإنقاذه من صراعات كابي ليون وسامي جميل.
 
* كاتب لبناني