التاريخ: آذار ١٤, ٢٠١٢
المصدر: جريدة الحياة
تشريح المعارضين العرب... الجدد والقدامى - محمد سيد رصاص

سادت تحليلات، في وسائل الإعلام العربية المرئية والمسموعة والمقروءة، تقول إن القوى «التقليدية» أزيحت جانباً عقب «الثورات الشبابية» وفق وصف تلك التحليلات للثورتين التونسية والمصرية عام 2011. في انتخابات «الجمعية التأسيسية التونسية» و «مجلس الشعب المصري» فازت بغالبية المقاعد قوى تونسية كانت في العمل السري والسجون والمنافي، وقد أتى من هذه الأماكن الثلاثة رئيسا الجمهورية ورئيس الوزراء الجديدان والكثير من النواب والوزراء، فيما فازت بالبرلمان المصري الجديد وبغالبية الثلثين قوتان أصولية وسلفية («الحرية والعدالة» و «النور») خرجتا من العمل المعارض المقموع والسرية والسجون وكانتا معبرتين عن قوتين، هما «الإخوان المسلمون» و «الجماعة الاسلامية»، الأولى عمرها ثمانية عقود والثانية ثلث قرن. أيضاً، في تلك الانتخابات كانت بغالبية الأحزاب، التي لم تنل أكثرية برلمانية ولكن فازت بغالبية المقاعد الباقية، قوى قديمة (مثلاً: «الديموقراطي التقدمي التونسي» و «الوفد الجديد المصري») فيما لم نر «القوى الشبابية» فازت بمقاعد تذكر.

 

تعبر تلك الصورة عن هشاشة وسطحية ما نراه ونسمعه ونقرأه في وسائل الإعلام العربية، وعن فوات تحليلات تصبح مثل «الخبز البايت» بعد قليل من حصولها. إلا أن كل هذا لا يخفي حقيقة وجود ظاهرة يمكن أن نطلق عليها اسم «المعارضون الجدد» إلى جانب القدامى، أو ما يمكن وضعهما، كما راج في عام2011، تحت مصطلحي «المعارضة التقليدية» و «المعارضة الجديدة»، وهذا أمر لم نره فقط في تونس ومصر وإنما ظهر أيضاً في اليمن وسورية خلال حراك اجتماعي هزّ البلدين المذكورين خلال العام الماضي.

 

في تونس 2008-2010 ظهرت قوى شبابية، وهي ظاهرة «فايسبوكية» أساساً، أثناء مرحلة بدا فيها الرئيس بن علي وكأنه قد مسح المعارضة من طاولة العمل السياسي التونسي. في مصر 2006-2010 برزت حالات مثل (حركة كفاية) و (6 إبريل) ثم ظاهرة الدكتور محمد البرادعي ومن التف حوله من مثقفين وأكاديميين وشباب. في يمن ما بعد 3 شباط (فبراير) 2011 بانت قوى شبابية كانت طوال تسعة أشهر لاحقة، حتى توقيع اتفاقية المبادرة الخليجية، أكثر تشدداً من «أحزاب اللقاء المشترك» المعارضة. في سورية ما بعد 18 آذار (مارس) 2011. كانت ظاهرة (المعارضون الجدد) قوية بحكم الضربات الشديدة التي تلقتها قوى المعارضة السورية بمختلف أجنحتها، الاسلامية والعروبية والماركسية، طوال العقود الثلاثة السابقة، والتي كادت أن تصل الى حدود تجفيف الينابيع، وقد ظهر تعثر وعجز قوى المعارضة السورية القديمة عن أن تستطيع تأطير الحراك الاجتماعي الكبير، مع تسجيل سبق أكبر نسبي للإسلاميين في ذلك، وهو ما كان ربما السبب في انتظام الكثير من هؤلاء المعارضين الجدد السوريين تحت خيمة المجلس الوطني الذي تهيمن عليه جماعة الإخوان المسلمين، وأيضاً ما يفسر الاضطراب الذي يشهده هذا المجلس منذ تأسيسه نتيجة تصادم عقليتين، وهو وضع تعيشه بحدود أقل (هيئة التنسيق الوطنية) بحكم تكوينها من قوى حزبية قديمة أساساً.

 

هذا التصادم بين عقليتي المعارض القديم وذلك الآتي حديثاً إلى المعارضة، بعدما كان في البيت أو في أعماله الخاصة أو في العمل الثقافي أو الأكاديمي أو عند النظام الحاكم، هو طبيعي لأنه صدام بين متمرسين في العمل السياسي التنظيمي، الذي يقوم على مؤسسات هي مطبخ القرار المبني على براغماتية وتمرحل و «إدارة للممكنات»، وبين طارئين على العمل السياسي بلا خبرات سابقة والذين يظنون أن التصريح السياسي أو البيان أو الوثيقة وكذلك الممارسة السياسية تشابه قصيدة أو نصاً أكاديمياً في عملية التشكيل، وبالتالي فإن ما تريده يمكن أن يوضع تلقائياً في النص السياسي وفي الشعار، من غير أن يدركوا أن «إدارة الممكنات» في العملية السياسية تؤدي إلى «اقتصاد في القول والفعل» وفقاً للتوازنات القائمة في المرحلة المحددة التي يمر بها السياسي.

 

أيضاً، إن عدم تعود المعارضين الجدد على عمل المؤسسات يقودهم إلى الكثير من الفردية والهوائية، فيما من يشتغل في المؤسسات لا يكون كذلك. والملاحظ أن الفردية تتساوق مع حب الأضواء والصفوف الأولى، فيما من هم خارجون من عمل مؤسسات حزبية لا يكونون كذلك، ويلاحظ أيضاً أن من يكون خارجاً من العمل السري، في شكل عام، لا يحب الأضواء ويفضل أن يمارس التأثير من وراء الستارة.

 

تصادم كهذا يتجسد أساساً بين حالتين: الحزبيون والمستقلون، حيث إن هؤلاء الأخيرين يأتون غالباً من أوساط ثقافية وأكاديمية، وفي المرحلة الراهنة من أوساط رجال الأعمال الأكثر قدرة على التأقلم في بحر السياسة بالقياس إلى المثقفين والأكاديميين، فيما يلفت النظر أن المستقل الآتي «في ربع الساعة الأخير» إلى المعارضة من أوساط النظام الحاكم يكون غالباً ميالاً إلى المزاودة ورفع السقف ربما من «أجل غسل ماضيه» وربما من أجل المرور من بين الصفوف إلى الصف الأول، ولكنه يختلف عن حالات المعارضين المستقلين الجدد في أنه أكثر خبرة في حرفة السياسة وفي كواليسها وطرقها، وليس مثل نظرائه من المعارضين الجدد الذين يمكن أن يظهر الواحد منهم في مناظرة تلفزيونية أمام معارض حزبي قديم وكأنه فريق محلي سوري في كرة القدم أمام فريق ريال مدريد.

 

في المجمل، من الطبيعي وجود ظواهر مثل «المعارضون الجدد» عند تآكل وانتهاء صلاحية أنظمة سياسية سادت لعقود طويلة من الزمن، وذلك في مرحلة انتقالية تخوض غمارها غالبية الشرائح الاجتماعية في مجتمعات عربية عدة، وأن تأتي ظواهر مثل هذه نتيجة انقطاع أجيال العمل السياسي المعارض عن أن تسلم العصا لبعضها بعضاً، كما في سباقات الألعاب الأولمبية، حيث كانت تنتقل الخبرات في الأحزاب من الجيل الأقدم إلى الجديد. هكذا يعاني بعض القياديين الجدد للمعارضة نقصاً خطيراً في فهم حرفة السياسة.

السؤال الآن، بعدما قامت المجتمعات التونسية والمصرية، وعلى ما يبدو أن المجتمع اليمني كذلك، بتفادي تسليم مقود السياسة إلى المعارضين الجدد بدلاً من القدماء: هل سيحصل مثل ذلك في مجتمعات عربية أخرى؟
 
* كاتب سوري