تتعاظم قوى التيارات الإسلامية في دول الربيع العربي بصورة تجعلنا نقول إن حصاد الثورات العربية هو إضافة الى الاتجاهات السياسية ذات الطابع الديني في الدول التي تحركت وأسقطت حكامها، أو حتى تلك التي سعت إلى التغيير بشكل سلمي، لذلك فإن تعبير «الربيع العربي» لا يبدو توصيفاً دقيقاً للمشهد العام على امتداد خريطة المنطقة، والتي جرت نتيجة ذلك، بحيث أصبحنا أمام نظم دينية أو شبه دينية توحي في النهاية بأن «الإسلاميين» قفزوا الى السلطة وحققوا نقلة نوعية كبيرة لم يعرفوا مثلها في القرن الأخير. ولعلنا لا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن الأمر لم يكن مفاجأة، إذ إن الحكام المستبدين يدفعون قوى المعارضة الوطنية وجماعات الرفض السياسي إلى أن تثور وتغيِّر المناخ العام في الدولة كلها، ولقد استجابت الشعوب لذلك الوافد الجديد على نحو انعكس على صناديق الاقتراع وأفرز مجالس نيابية ذات أغلبية تنتمي للتيار الديني، لأن الشعوب أيضاً ضاقت بقبضة الاستبداد وشيوع الفساد وأصبحت تدرك أن التغيير واجب، وأن طي صفحة الماضي أصبح أمراً حتمياً، كما رددت النخبة في عدد من الدول العربية المنتمية إلى مرحلة ثورة الربيع -حتى وإن لم يكن لتلك النخبة توجه إسلامي- أن الوقت قد حان لكي نعطي فرصةً للمشروع الإسلامي بحيث يتولى أنصاره مسؤولية الحكم لعلهم يحققون إنجازاً إيجابياً، خصوصاً بعد أن أخفق المشروعان القومي والاشتراكي في العقود الأخيرة، وهنا يجب أن نبحث بجدية عن العوامل التي أدت إلى صعود «الإسلاميين» الى السلطة، سواء بالثورات أو بالانتخابات، ولعلنا نرصد في هذا السياق العوامل التالية:
أولاً: أن نظرة سريعة إلى الوراء سوف تكشف لنا أن مواجهة الإسلام مع الغرب قد تصاعدت في العقود الأخيرة على نحوٍ غير مسبوق ربما منذ أيام «حرب الفرنجة» المسماة خطأ «الحروب الصليبية»، بل إنني أزعم أن حركة «الاستشراق» كانت تحمل في مضمونها إعجاباً أوروبياً مستتراً بالشعوب الإسلامية وتقاليدها الاجتماعية وعاداتها الثقافية وقيمها الدينية. ولا شك في أن الحادي عشر من سبتمبر 2001 كان نقطة فارقة في طبيعة العلاقات بين المسلمين والغرب عموماً، فلقد تولدت نظرة الشك وبدأت الريبة تدب في أوصال تلك العلاقة بصورة ملفتة. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى تعميق ما يسمى «الإرهاب الدولي» وإلصاق الجزء الأكبر منه بالإسلام والمسلمين وهم منه براء، فصفحة الدين الحنيف ناصعة البياض لا تعرف التعصب ولا تكره الآخر، كما أن المسلمين عاشوا مع المِلل والنحل الأخرى، خصوصاً «أهل الكتاب»، قرابة خمسة عشر قرناً وشهدت بعض المجتمعات ذات التعددية الدينية درجة عالية من الاندماج والقبول المتبادل، باستثناء فترات محدودة أخذت ألواناً من الشد والجذب بين المسلمين وغيرهم، وكان مردّ ذلك في أغلب الظروف يرجع لأسباب سياسية يتم استغلال الدين فيها وتوظيفه لصالح طرف معين، لذلك فإننا نظن أن ما طرأ على الساحة الدولية في العقود الأخيرة قد أدى بشكل غير مباشر إلى دعم التيارات الإسلامية وتجميع قواها وتعظيم دورها.
ثانياً: لا يجادل رجال الدين في الديانات الإبراهيمية الثلاث، في أن الشريعة الإسلامية وتفاسير الفقه التي لحقت بها، تشير كلها إلى مضمون العدالة الاجتماعية في أوسع معانيها، فالإسلام دين التكافل، ويكفي أن نتذكر قول الفاروق عمر: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأعطيت فضول أموال الأغنياء للفقراء»، فهذا معنى حديث في مفهوم «العدالة الاجتماعية» ومنطق «توزيع الثروة»، لذلك لم يخطئ أمير الشعراء أحمد شوقي عندما وصف المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: (الاشتراكيون أنت إمامهم...). لذلك، فإن المسلمين الذين يؤمنون بأن الزكاة ركن من أركان الإسلام الخمسة، هم أولئك أنفسهم الذين يدركون أن دينهم الحنيف يرفض الاستغلال ويدين الاستبداد ويدعو إلى المساواة بين البشر، فلقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً، والمفاضلة بين مسلم وآخر تكون بالتقوى والعمل الصالح، خصوصاً أن الإسلام يرى أن (الدين المعاملة)، ولا شك في أن هذا المخزون العميق والزخم القوي لقضية «العدالة الاجتماعية» في الإسلام يمثل مخزوناً دافعاً في عقل المسلم يدعوه إلى الثورة على الحاكم الفاسد ويحض على التغيير إلى الأفضل. ولا شك في أن بعض الفقهاء أمثال «ابن تيمية» و «ابن حزم» قد أجازوا «الثورة» على الحاكم المستبد وفقاً لشروط معينة حدّدوها في كتابات مستفيضة استقت منها «الجماعة الإسلامية» مبررات الثورة ودوافعها في السنوات الأخيرة، وهو ما جعل حصاد الربيع العربي إسلامياً إلى حد كبير.
ثالثاً: لقد شعرت الشعوب العربية التي ثارت مؤخراً، أن الإسلام يبرر ما تقوم به ويمثل سنداً لحركتها في اتجاه ما تسعى إليه، ولازلت أتذكر أن خطيب مسجد «عمر مكرم» في قلب العاصمة المصرية قد تحوَّل إلى خطيب للثورة، وليس هذا جديداً، فلقد كان «عبد الله النديم» الأزهري المعمم هو خطيب الثورة العرابية في مطلع ثمانينات القرن التاسع عشر، كما أننا لا ننسى أن منبر الأزهر الشريف قد اعتلاه ثوار 1919 في مصر، ثم جمال عبد الناصر عام 1956، بل وإسماعيل هنية عام 2012، بحيث تمثل كلها مشاهد تؤكد الربط المباشر بين الدين والثورة ضد الاستبداد والعدوان والاحتلال، وهو ما أعطى ثورات «الربيع العربي» زخماً دينياً في تونس ومصر وليبيا، وربما في غيرها من الدول العربية الأخرى التي تقف في قائمة الانتظار، بل إن الحصاد الإسلامي سياسياً في كل من المغرب والكويت، ومن دون «ثورة» وبالطرق الديموقراطية الحديثة، إنما هو تعزيز للمفهوم الذي ذهبنا إليه من أن حصاد الربيع العربي -ثورة أو إصلاحاً- هو إسلامي بالدرجة الأولى.
رابعاً: أن انسياب أموال المؤسسات السياسية والهيئات الإنمائية لعشرات المنظمات والجماعات بل والأفراد في دول الشرق الأوسط قد أشعل وقود الثورة ودفع جذوتها إلى التصاعد، وهنا نتذكر المواجهة بين الدولة المصرية والجمعيات الأهلية المصرية في الفترة الأخيرة نتيجة تلقي تلك الجمعيات أموالاً طائلة وبطرق غير رسمية على مدار السنوات الأخيرة، ما أدى إلى مشكلة كبيرة بين القاهرة وواشنطن حول دعم الأخيرة لبعض تنظيمات «الثورة المصرية» بدعوى تقديم العون للديموقراطية ودفع قضايا حقوق الإنسان وغيرهما من المفردات الحديثة في القاموس السياسي الغربي المعاصر، ولقد استنفر ذلك جماعات أخرى ليست «ليبرالية» التوجه ولا غربية الرؤية، فهي لا تؤمن بمدنية الدولة ولا تعترف بالمفاهيم الوافدة للتطور والإصلاح، فأصبحنا أمام اتجاهين مختلفين يصبان في إناء واحد هو إناء الثورة وجذوتها المشتعلة. خامساً: نرصد على الجانب الآخر دعماً مادياً يتدفق من دول عربية وإسلامية على بعض المنظمات والجماعات التي ترفع شعارات إسلامية في إطار عدد من المجتمعات العربية، ولقد صدرت فتوى في السنوات الأخيرة تجيز إنفاق أموال «الزكاة» في أعمال الدعوة الإسلامية وما يرتبط بها، فكانت تلك نقطة انطلاق مهمة دفعت بعشرات الملايين نحو تلك الجمعيات دعماً وإنفاقاً، فأصبحت «مصارف الزكاة» لكبار رجال الأعمال في الجزيرة العربية ودول الخليج مصدراً مادياً قوياً يتدفق على بعض الجمعيات، ويكفي أن نتذكر أن إحداها تلقت في عام واحد ما يقرب من مئة وثلاثين مليون يورو، فما بالنا بغيرها؟! وإلى أين تتجه هذه الأموال الطائلة؟! لذلك، نحن نأمل في توظيف هذه الإمكانات لدعم مسيرة الإصلاح وتوجيه البلاد نحو الحداثة والعصرنة ومواكبة روح التطور.
هذه رؤية للربيع العربي من منظور يرصد التحولات ويدرك التغييرات ويؤمن بأنه على الرغم من أن تلك الثورات وطنية بالدرجة الأولى اندفع إليها أبناء الشعوب المقهورة، إلا أن «التيار الإسلامي» كان هو الأكثر جاهزية للقفز أمام العربة وتحريكها في الاتجاه الذي يراه، لذلك لم يكن غريباً أن نقول أن هذا الربيع العربي هو أيضاً ربيع إسلامي، فحصدت جماعات الإسلام السياسي، بدءاً من جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر مرورًا بحزب «النهضة» في تونس وصولاً إلى باقي التنظيمات الإسلامية التي شاركت في ثورات الربيع العربي، النتائج الإيجابية لتلك الثورات الرائدة وغير المسبوقة في تاريخنا الحديث. * كاتب مصري
|