استطاع الاستبداد على مدى قرابة نصف قرن من الزمن وأد أحلام كثيرة ومتنوعة داعبت مشاعر السوريين وهم يرون التطوّرات الجارية في العالم منذ أواسط القرن العشرين حتى اليوم. استبدادٌ اشتدّت وطأته خلال السنوات الأربعين الماضية، مع تمكّنه من استكمال منظومة سياسية مالية أمنية محكمة متماسكة، مغلّفة بخطاب فكري إعلامي إيديولوجي شمولي يرتدي رداء الممانعة، ذريعةً تخدم هذه المنظومة، وماكينةً يمكنها اجتثاث الكثير من الأحلام.
زخرت لدى السوريين تاريخياً أحلام استكمال مهمات التحرر الوطني وتحقيق الذات الوطنيّة، بما تعنيه من ارتقاء نهضوي بالبلاد، وتحقيق تقدّم اجتماعي، وبناء مجتمع ديموقراطي قائم على المساواة والعدالة وحكم القانون، تتعزز فيه أواصر العلاقات بين مكوّناته الإثنية والدينية والطائفية، وتشرق منه ثقافة مدنية أكثر نضجاً. وعبّروا عن أحلامهم في خمسينات القرن الماضي عبر ما تيسّر لهم من مؤسسات مدنية ومنظمات أهلية وأحزاب وتكتلات وروابط، أثمرت نتاجاً ثقافياً تفاعل عضوياً مع المجتمع وعبّر بدرجة أو أخرى عن حراكه.
بيد أن منظومة الاستبداد التي اختطفت الدولة وأوقفت عجلة التاريخ، رأت في المقابل أن استمرارها يتطلب أموراً أخرى تختلف تمام الاختلاف عن أحلام السوريين. ففي إطار اشتغالها على تفكيك المجتمع المدني في البلاد، انصبّ اهتمامها على حظر تعبيراته، وإبطال مفاعيله، وبتر إفرازاته الثقافية، مستخدمةً شتى شعارات "الوحدة الوطنية" و"تماسك الجبهة الداخلية" وغيرها من الشعارات المرحلية. في الإطار ذاته جاء تعطيل الصحافة الحرة، السياسية منها والثقافية، وحظر الأحزاب باستثناء المدجّنة منها، والتضييق على الجمعيات المدنية، ومسخ النقابات المهنية للكتّاب والأدباء والصحافيين والفنانين إلى مجرد منظمات شعبية "رديفة" للحزب القائد، تمترست فيها استحكامات أمنية محسوبية فاسدة. جملة إجراءات بثّت في مفاصل المجتمع ثقافة خوف مهيمنة.
فعلى صعيد المبادرات الثقافية المجتمعية، اشتغل الاستبداد على استدامة منظومته وفق منهجية ثلاثية قائمة على منع المبادرات الثقافية وفرملتها وعرقلتها وإجهاضها، وعلى استيعاب أي مبادرات "ناجية" وامتصاصها وقولبتها وفق لائحة محددات أمنية قاسية، وعلى إفراغ المبادرات "الصامدة" من معانيها، إن صمدت. فمُنع الطلبة الجامعيون مثلاً من تشكيل فرقة مسرحية، أو نادٍ للسينما، إلا عبر "منظمتهم الشعبية" المعنية، "الاتحاد الوطني لطلبة سوريا". ولم يشكل الأدباء الشباب رابطتهم إلا لفترة وجيزة، وتحت إشراف اتحاد شبيبة الثورة حصراً. وطالت عملية حلّ الجمعيات الأهلية والمنظمات المدنية حتى منظمة الكشافة، بما يمكن أن تعنيه من تواصل واطلاع على الآخر داخل سوريا وخارجها.
على صعيد الإدارة الثقافية في المدن السورية، تشكلت إدارات المراكز الثقافية وفق اعتبارات توافقية أمنية بعيدة كل البعد عن الفعل الثقافي، وباتت شيئاً فشيئاً تستحق لقب "المخافر الثقافية"، باعتبارها مارست دوراً أمنياً رقابياً كخط "ضبط" أمامي، تختفي وراءه الأجهزة الأمنية المعروفة.
على الصعيد المناهج التعليمية، استعيض عن مادة "التربية الوطنية" بمادتي "الثقافة القومية الاشتراكية"، في ضربة مزدوجة لم تكتفِ ببث المقولات الايديولوجية البائسة للحزب الحاكم فحسب، بل وبسحب بعض المفاهيم النيّرة التي كانت تتضمنها مادة "التربية الوطنية" من التداول، مثل مفاهيم العقد الاجتماعي، والمجتمع المدني.
أخيراً، ولعلّه الأخطر، ففي مقابل حلم المواطنة والتعارف بين مكوّنات المجتمع الثقافية، عملت منظومة الاستبداد على تكريس الانعزالية بين هذه المكوّنات الإثنية والدينية والطائفية، ومنع التداول في شأنها، واعتبارها من المحرّمات التي يمكن أن تهدد المجتمع، وحارب حتى المقاهي الثقافية في دمشق وحلب وحمص وغيرها، التي شكّلت طوال عقود ملتقيات للكتّاب والشعراء والفنانين والمثقفين عموماً، باعتبارها بؤراً أمنية محتملة.
بل ولاستكمال بؤس المشهد، وعلى نقيض الفعل التنويري المنوط بالدولة، بادر الاستبداد إلى ممارسات تدميرية عبر جهود حثيثة بذلها لإبعاد السوريين عن الثقافة فعلاً وتلقّياً، وخلق انطباع عام لدى السوريين الباحثين عن لقمة العيش، حتى المتابعين للشؤون الثقافية منهم، بأن الفعل الثقافي الذي يمارسه هذا الكاتب في كتابه، أو تلك الفنّانة في فنّها، أو ذاك المفكّر في فكره، إنما هو ضرب من الترف والاستعراض في زمنٍ تتهدد البلد مؤامرات الأعداء المتربصين بممانعته، ويتطلب شدّ الأحزمة الثقافية إلى حدّ الضمور.
من هنا يمكننا النظر إلى المفاجأة التي حققها السوريون على الصعيد الثقافي لأنفسهم أولاً، بعدما قلبت الثورة المشهد كله على مدى العام الفائت، كاسرةً ثقافة الخوف.
فعلى التوازي مع عودة السوريين إلى ميادين الفعل السياسي والتنظيمي، يمكن القول فعلاً إنهم عادوا إلى ميادين الثقافة الرحبة فعلاً وتلقّياً، فسقطت رموز وتألقت أخرى، وانبثقت مع الحراك أسماء مبدعة جديدة، وحركة ثقافية عريضة وشبه متكاملة، من صحف ومجلات، وأفلام فيديو وملتيميديا، ومسرحيات، وفنون تشكيلية، وإبداعات أدبية وفكرية وإعلامية. لقد فتح السوريون صندوق أحلامهم المؤجلة، فردياً وجماعياً، واستعادوا آمالهم في بناء الدولة التي يريدون.
صندوق أحلامهم زاخر: حلمٌ بأن يتعرف الشعب إلى ذاته أولاً، وأن يجفف منابع الاحتقان التي كان يؤججها الاستبداد ويضعها في الوقت ذاته تحت السجادة، ويتعرّف أبناؤه إلى ثقافات بلدهم، الدينية والطائفية؛ حلمٌ بتفكيك "الغيتوات" التي رعاها الاستبداد داخل المدن؛ حلمٌ بوضع مسائل مجتمعية ساخنة على بساط البحث، كالمساواة بين الجنسين، ورعاية الريادة المجتمعية والثقافية والشبابية، والزواج المختلط، والزواج المدني؛ حلمٌ بحريّة الصحافة؛ حلمٌ بإنقاذ ثقافاتهم الآيلة للزوال، وتعليم أبنائهم اللغات الآرامية والسريانية والكردية والشركسية إلى جانب العربية؛ حلمٌ بالانطلاق إلى عالمهم الأوسع متحررين من أكل استبداد ومن كل عقدة خوف. باختصار: حلمٌ بثقافة بلا حدود.
لقد بدأ بالفعل مشوار تحقيق الأحلام المؤجلة. فاليوم، وبعد عام من بدء الثورة، بات السوريون يعرفون بعضهم بعضاً أكثر من أي وقت مضى، وباتوا منتجين ثقافياً، ومتابعين لآراء ومواقف مفكريهم وأدبائهم وفنانيهم، ومتفاعلين معهم. اليوم، ما عاد في مقدور أحد أن يعيد أحلامهم إلى مستودعها الذي وئدت فيه لنصف قرن. هذا يعني أنّ من الواقعيّ تماماً القول- من موقع المتابع الثقافي- إن الثورة انتصرت منذ أول أغنية جماعية صدحت بها حناجر المتظاهرين في سوريا كاسرةً حاجز الخوف، وإن الأخبار على الأرض هي مجرّد تفاصيل ميدانيّة للتخلص من منظومة الاستبداد، وتبعاتها من تخلّف وجهل وأصوليات، ودخول القرن الحادي والعشرين بما يليق به.
|