التاريخ: آذار ١١, ٢٠١٢
المصدر: ملحق النهار الثقافي
جدلية الحداثة والتصوف في الثورة السورية - منير الخطيب

في معارضة بعض المثقفين "الحداثيين"، الذين ينتسبون إلى "اوليغارشية نخبوية" مقطوعة الصلة مع مفهوم الشعب، والذين وصفوا الثورة السورية منذ انطلاقها بالسلفية والبعد عن المدنية، ودليلهم على هذا خروج التظاهرات من الجوامع والأرياف، وكذلك شعاراتها الدينية... إلخ؛ أقول بالتعارض مع هؤلاء: إن الثورة السورية اقتحمت مضامين الحداثة اقتحاماً.


وضعت الثورة السوريين، بقوة، على خط التظاهر السلمي، وفتحت المجال واسعاً أمام عودة السياسة، بصفتها فاعلية مجتمعية ومدنية، إلى المجتمع السوري، بعدما نسي هذا المجتمع التظاهر السلمي، حيث كانت "السياسة" في العقود الماضية تولّف على الخيارات الايديولوجية والحزبوية، وتقوم على احتكار السلطة للمجال العام احتكاراً جامعاً مانعاً، وقتل الروح الفردية لدى البشر، وتحويلهم مجرد كم عددي مهمل. فنمت في بلادنا الأحزاب الايديولوجية، أحزاب "الثورة" والثوران، أحزاب الحرب والسلاح، التي لم يكن لها من وظيفة فعلية إلا نزع السياسة من المجتمع، وحقن النسيج المجتمعي بالعنف وعوامل الحرب الأهلية. ذلك لأن "السياسة" بالنسبة الى هذه الأحزاب تقوم على مبدأ "الغلبة" وجعل الآخرين متساوين في منسوب التهميش والسديمية (التساوي في العبودية). لذا سجن البعثيون وقتلوا: البعثيين والاسلاميين واليساريين، وذوّب الناصريون الشيوعيين بالأسيد، واغتال الإسلاميون البعثيين والشيوعيين، فنكص مجتمعنا إلى ما قبل تاريخه الكولونيالي، وعادت "السياسة" ترتدي سحنة مملوكية – سلطانية.


الثورة السورية التي أتمت عامها الأول على خط مغاير لهذه الحقبة، التظاهر السلمي والإضراب في مواجهة عسكرة الحياة السياسية، التظاهر السلمي يعيد الاعتبار الى مفهوم الشعب، الكتل المهمشة تعود إلى مسرح التاريخ كذات فاعلة، يترنح أمام دخولها مفهوم الطليعة، وفكرة الحزب القائد، وكل المنظومات الايديولوجية المغلقة، المعارضة والموالية، تتساقط على حواف الثورة.


الثورة السورية، ثورة أطفال المدارس، وحنجرة المغنّي، وأصابع الفنّان، وعيّن المصور، يحكمها توق "برومثيوسي" لإنتاج وطنية سورية مفتوحة على آفاق إنسانية رحبة، تحررها من أعباء "الدور الإقليمي"، وشعارات ما فوق الوطنية وممارسات ما تحتها.


كانت الشعارات المتصلة بقضية الدولة هي الأبرز في شعارات الثورة: "لا سلفية ولا أخوان بدنا دولة مدنية"، "لا إيران ولا حزب الله، بدنا دولة تخاف الله". التظاهر السلمي يرفض "الدولة" الدينية، و"دولة" الحزب القائد، ويرفض كل "أدلوجات الدولة"، ويعود إلى التمسك بعموميتها، ونزع الصفة الجزئية عنها، كباقي شعوب الأرض. أليست نظرية الدولة وتطبيقاتها هي ذروة الحداثة؟
هذا الانحياز، انحياز الثورة لقضية الدولة، يترافق مع انحياز آخر لمفهوم الشعب بالمعنى السياسي، بما يطمح إلى تجاوز حالة الرعوية والسديمية، وحالة "المخلوطة الاجتماعية"، ويطمح إلى فكفكة تعشّق الاستبداد مع تحاجزات النسيج المجتمعي. تالياً، تأكيد الحراك الشبابي على شعارات: الحرية، الكرامة، المواطنة، "الشعب السوري واحد واحد"، "لا للطائفية"،...


يؤسس ذلك مقدمات لصوغ عقد اجتماعي جديد، بين مواطنين أحرار متساوين أمام القانون. أليس تشكيل عقد اجتماعي جديد، على أساس مبدأي الحرية والمواطنة، معلماً بارزاً من معالم الحداثة؟
إن اندماج مفاهيم الدولة، الشعب، العقد الاجتماعي، الوطنية السورية، الحرية، المساواة، مع الانتفاضة الشعبية، يجعل "الحداثة" الهجينة والنغلة المنجدلة على حبال الاستبداد، تتهافت وتزداد هامشية واستلاباً.


هذا المستوى الحداثي من الشعارات المندمج مع الحركة الشعبية، يتعالق ويتجادل مع مستوى آخر من الشعارات، له بعد صوفي وأخلاقي: "الله أكبر"، "الله وسوريا وحرية وبس"، "يا لله مالنا غيرك يا لله"، "بدنا دولة تخاف الله". الانتفاضة الشعبية لم تردد هذه الشعارات في سياق ديني دوغمائي، بل ردّدها شباب الـ"فايسبوك" في المدن والمهمشون في الأرياف، أطفال المدارس وطلبة الجامعات، صبايا محجبات وغير محجبات، من مختلف التيارات والانتماءات.


رددت حناجر الشباب هذه الشعارات، لإعادة تأسيس "المطلق الأخلاقي" في مجتمعنا، بتعبيرات الراحل إلياس مرقص: "من ليس عنده في روحه وفي فكره المطلق، يحوّل نسبيه إلى مطلق وذلكم هو الاستبداد".


مع غياب الدولة والقانون والحرية في الحقبة الماضية، غابت فكرة "المطلق الأخلاقي"، الذي يشكل حداً على نسبيات المستبدين وعلى أوهامهم وأوثانهم. لذا صار القائد "مطلقاً"، والحزب "مطلقا"، والقومية الفارغة "مطلقا"، والسلطة مطلقة. فكان التوقد الصوفي في صيحات المتظاهرين لشعار "الله أكبر"، ضرورياً، لمواجهة تغوّل الاستبداد ومواجهة ذلك الكم العاري من العنف، وشحن إرادات المتظاهرين، وتقوية عزائمهم، ومواجهة التركز الكثيف للمصالح الإقليمية والدولية في سوريا. الله أكبر من الاستبداد والمستبدين، وأكبر من القادة التاريخيين، وأكبر من الإيديولوجيات جميعها. يصير للسياسة، مع الثورة، حظوظ راهنة، بأن تنعتق من أسر الإيديولوجيا، وتتقدم صعوداً نحو العمومية، ونحو الاندماج مع المجال الأخلاقي، ونقل التعارضات الاجتماعية من ميدان الصراع والاحتراب إلى ميدان التسويات السلمية في إطار القانون. كذلك فإننا نلحظ في شعارات، "الله وسوريا وحرية وبس"، "لا إيران ولا حزب الله بدنا دولة تخاف الله"، ذات الملمح الصوفي، الذي يعي بمعنى أو بآخر أن سمو الله يجب أن يكون مؤسساً لسمو الدولة، وسمو القانون، وسمو الحرية، أيضاً كما يقول الراحل إلياس مرقص، فالشعوب التي لا تعرف الدولة والقانون والحرية، لا معنى لحضور الله في حياتها، ولا معنى لإيمانها الذي غالباً ما يكون إيماناً دوغمائياً، يفتقر إلى الجوهر الروحي والبعد الأخلاقي.


الثورة السورية أفصحت عن هذين البعدين، البعد الروحي والأخلاقي، والبعد المدني. لا يغير هذه الحقيقة قيام ظاهرة "الجيش السوري الحر"، التي كانت نتيجة لوضع الجيش النظامي في مواجهة الشعب. هذان البعدان مؤسسان على اعتدال السوريين وتسامحهم، فالسوريون، مثلاً، لا يعرفون قبر ابن تيمية الموجود في دمشق، لكنهم يزورون قبر محيي الدين بن عربي الموجود في حي كبير باسمه في عاصمتهم.


لذا تتنازع الوضع السوري بعد عام من انطلاق الثورة جدليتان:


أ – جدلية الحداثة والتصوف التي تشكّل خطاً مميزاً في الثورة، وتعني التكور حول الوطنية السورية، بما يعني ذلك: وضع الدولة – الأمة، وإعادة صوغ العقد الاجتماعي على أساس الحرية والمواطنة وسيادة القانون، والانتقال إلى السياسة بصفتها العامة والمؤسسة على الأخلاق، أفقاً للانتفاضة السورية.


ب – جدلية تعالق الاستبداد وتشابكه مع ظاهرة نقص الاندماج الوطني، ومع الأوضاع الإقليمية، ومع التنظيمات والتيارات المذهبية والظلامية، ومع المصالح الخاصة الأسطورية، التي تفتح الوضع الداخلي على التعفن واحتمالات الحرب الداخلية.
السوريون، حتماً، منحازون إلى الجدلية الأولى، التي نأمل أن يسمح التاريخ بتحقيقها.