ظلّت زوجتي تسألني "هل سنرى هذا أيضاً في سوريا؟"، وثابرتُ على الإجابة: "صعبة، شبه مستحيلة، أشبه بالمعجزة إن حدثت". كان هذا الحوار يتكرر طوال شهري كانون الثاني وشباط 2011. نشاهد ما يحدث في بولفار الحبيب بورقيبة بتونس، وفي ميدان التحرير بالقاهرة، وفي ساحة التغيير بصنعاء، وفي ميدان اللؤلؤة بالمنامة، وفي الساحة الخضراء بطرابلس الغرب... ونقول: "هل من الممكن أن نشهد ذلك في ساحة الأمويين بدمشق؟". فنحن اللبنانيين، بثورتنا "الناقصة" في العام 2005، بتنا على اقتناع أن وعد الحرية في بيروت مؤجل إلى حين إنجاز الديموقراطية في دمشق.
كان الربيع العربي في بثه التلفزيوني المباشر، يدفعنا ونحن نحتفل به لا إلى الأخذ بوقائعه المذهلة فحسب، بل إلى تخيله هكذا ممتداً ومتواصلاً وزاحفاً إلى قلب دمشق، حيث نشتهي ونخاف، نحن المحبطين من عدم اكتمال ربيعنا، والشهود على المصير المحزن لـ"ربيع دمشق" الأول.
في 18 شباط 2011، تجمع عشرات من الشبان في حي الحريق بدمشق احتجاجاً على اعتداء الشرطة على شاب، وهتفوا يومها "الشعب السوري ما بينذلّ". بدت تلك الحادثة معزولة وعفوية وانطفأت في مطرحها من غير اشتعال فعلي. ظننا أنها كانت محض سنونوة شاردة.
لكن في اليوم التالي أعلن 13 معتقلاً من جماعات حقوق الإنسان، بينهم المحاميان هيثم المالح وأنور البني، إضرابهم عن الطعام في سجن عدرا القريب من دمشق. وأصدر المضربون بياناً طالبوا فيه بإنهاء الظلم والاعتقال السياسي، ودعوا إلى استعادة الحقوق المدنية والسياسية "المسروقة". واستنكر البيان حكم قانون الطوارئ المعلن منذ 48 سنة بواسطة حكومة عسكرية غير منتخبة، واستمرار الاستبداد السياسي لقمع حرية التعبير ومعاقبة الخصوم بتهم ملفقة ومحاكمات ظالمة. وقّع البيان السجناء حبيب صالح ومصطفى جمعة وعلي عبد الله ومحمد بارش وكمال اللبواني ومحمد سيد عمر وميشال تامو وخلف جربوع وسعدون شيخو وإسماعيل عبدي والمدوّن كمال شيخو.
أيضاً لم يتطور الأمر إلى حراك شعبي فعلي. لكن على الأقل شعرنا أن أصواتاً بدأت تعلو في سماء دمشق. نتصل بالأصدقاء ونسألهم "كيف الأوضاع عندكم؟"، فيجيبون: "الناس مستنفرة والسلطة أيضاً... الشارع متوتر". لكنهم مثلنا متوجسون من أي تفاؤل زائف، وحذرون جداً في التوقعات.
في يوم 15 آذار جاء خبر اعتقال أطفال درعا. في اليوم نفسه جاء خبر وشريط مصوّر لعشرات المتظاهرين في سوق الحميدية. في اليوم التالي تم تنظيم تظاهرة أمام وزارة الداخلية في ساحة المرجة، حيث طالب نحو 150 شخصاً بالإفراج عن أقاربهم وأصدقائهم المعتقلين السياسيين. تصدى لهم رجال الشرطة ورجال الإستخبارات، واعتقل أكثر من 20 شخصاً بينهم الناشطة سهير الأتاسي والمفكر الطيب تيزيني.
يوم 18 آذار بدأت تنتشر التفاصيل المرعبة عما حدث لأطفال درعا. على رغم الصدمة أدركنا أن السلطة، بأفعالها هذه، هي التي تطلب الثورة وتستدعيها بإلحاح وعناد. يومها صرخ أهل درعا "بعد اليوم ما في خوف". صدر بيان الثورة (كُتب في 15 آذار وانتشر في 18 منه) يدعو إلى النزول إلى الساحات يوم 19 آذار.
خرجت تظاهرات التشييع في درعا، تظاهرة في الجامع الأموي بالعاصمة، في بانياس، في حمص، في مضايا..."لقد بدأت"، قلناها بيقين هذه المرة. الثورة لها ملامح معروفة، والتماعات وشرارات لا تخطئها العين، وها هي بكامل حضورها تظهر باهرة في عموم سوريا. يتصل بي يحيى: "المعجزة تحققت يا يوسف".
منذ ذلك الحين، نحن نعيش زمن الثورة السورية. نستيقظ وننام على أخبارها. نذهب إلى حوائط الـ"فايسبوك" لنكون على مقربة من وقائعها. نسهر لنساجل في الأفكار عما يجب أن يصير هناك، عن معنى هذا الحدث أو ذاك في معمعة الثورة. لا نعرف أن نكتب (ثقافة أو صحافة) إلا تحت عنوان هذه الثورة وهواجسها. تلك هي حالنا منذ عام.
حدثت عشرات الألوف من التظاهرات (قد تسجل رقماً قياسياً) في مئات القرى والبلدات والضواحي والمدن، شملت الخريطة السورية كلها، وظلت السلطة تردد: عصابات مسلحة، مجموعات سلفية، مؤامرة صهيونية. وكنا نتساءل: إذا كان نصف قرن من حكم البعث و"سوريا الأسد" جعل الشعب السوري عصابات مسلحة وسلفيين وعملاء صهاينة، فهذا يستدعي على الأقل القول: حزب البعث أسوأ ما قد يصيب "العروبة" وأهلها، إنه لا يُنتج سوى شعب متآمر ومضلَّل. نصف قرن تبدد بمجرد أن قام صبية بخربشة عفوية على جدار مدرستهم.
إذ نكتب اليوم تحت وقع الإجتياح العسكري، الذي قامت به القوات النظامية، لحي بابا عمرو في حمص، ننسى شريط الوقائع الشديد الكثافة الذي اتسمت به الثورة السورية. ننسى مثلاً أن كل الصدام العنيف والدموي بين السكان وقوات النظام سببه مطلب واحد بسيط: حق التظاهر السلمي والمدني. فقط من أجل هذا الحق، وقبل أن تتحقق أي مطالب للمتظاهرين – أياً تكن - يقوم الصراع بين النظام والشعب. أي ما نظنه بداهة وحقاً مكتسباً: التجمع السلمي، حرية التعبير، حق الإعتراض والمعارضة. هذا كله هو أساس النزاع الشديد القسوة والتكلفة بين السلطة الحاكمة والمنتفضين. من أجل اكتساب حق التظاهر من دون خوف أو قمع، يدفع السوريون ألوف القتلى وعشرات الألوف من الجرحى، ومثلهم من المعتقلين والمجهولي المصير والمفقودين.
السوريون يُقتَلون، منذ حادثة حائط درعا، فقط لأنهم يريدون البداهة: أن يكونوا بشراً بكامل كرامتهم. هذا ما يجب عدم نسيانه ونحن نساجل في أمور من مثل "التدخل الخارجي" و"التسليح" و"السلفية" و"المعابر الآمنة"... إلخ. فالشعار الأول كان "الشعب السوري ما بينذلّ"، والشعار الثاني كان "ما في خوف بعد اليوم". الشعاران في معرض النفي كانا يعلنان أن هذا الشعب يعاني تاريخاً مديداً من الذل والخوف. بدورها كانت السلطة بكل جبروتها وشراستها لا تريد سوى إبقاء الخوف والذل كسمة دائمة لعلاقتها مع مواطنيها.
لذا، وبفجور دموي متوارث، تذهب هذه السلطة إلى إعلان الحرب على الشعب. حرب فعلية وخالية تقريباً من أي قوانين تحكم الحروب المعاصرة. بالفجور نفسه يعلن الأمين العام القطري لحزب البعث في لبنان فايز شكر في بيروت، من قلب ساحة الشهداء: "بابا عمرو أعطاك عمرو"، مزهواً بقتل السكان وتشريدهم وبحرق المنازل ونهبها وتدميرها، بلا أي خجل، معلناً نجاح الجيش النظامي في دخول الحي الحمصي. كان ذلك ربما من أندر لحظات الإقرار بالحقيقة من أي شخص أو وسيلة إعلامية تابعة للنظام السوري: "نحن قوة إحتلال، ونتصرف كقوة احتلال، وقد انتصرنا على مواطنينا". هذا ما ذكّرني بما كان يقوله أصدقاؤنا في دمشق عام 2005 رداً على مطالبتنا برحيل الجيش السوري من لبنان: "ونحن نطالب بانسحاب الجيش السوري من سوريا". ما بدا طرفة في العام 2005 تحول حقيقة كابوسية عام 2012: الجيش السوري يجتاح، احتلالاً، أنحاء سوريا. هذه الحقيقة فريدة من نوعها في التاريخ. كيف "يحتل" الجيش بلده؟ كيف يصير الجيش غازياً لوطنه؟ لنقرّ بأن هذه واحدة من أكبر "عجائب" إنجازات الحكم البعثي في سوريا، وأفضل "غرائبه".
مرّ عام على بدء الثورة، وتطور رد فعل النظام من قمع للتظاهرات إلى شن حملات عسكرية واسعة النطاق في كل أنحاء البلاد، حتى في أحياء العاصمة وضواحيها. الثورة نجحت في دفع النظام إلى عرائه الكامل: "قوة غاشمة" ليس إلاّ. على هذا يمكن القول: احتل النظام السوري حيّ بابا عمرو وخسر سوريا كلها. هذا هو ثمن احتلال كيلومتر مربّع واحد من الكرامة والغضب والإرادة. أي أن سقوط بابا عمرو "حرّر" سوريا كلها. بغض النظر عن مستقبل تسليح المعارضة، أو تضاؤل فرص الإستمرار في الحراك السلمي، أو احتمال التدخل الخارجي، ارتسم الإنفصال الكامل بين النظام وسوريا. هذا أيضاً كان ثمن احتلال بابا عمرو.
هذا الإنفصال أيضاً، منذ أن أسست له الثورة، أتاح لنا كلبنانيين أن نقيم - ربما للمرة الأولى منذ عقود - "علاقة" مع المواطنين السوريين. أغلب اللبنانيين باتوا اليوم "يتحدثون" مع ناطور بنايتهم الآتي من أرياف سوريا، يتشاطرون الآراء مع الطالب السوري، يسألون العامل السوري عن أخبار عائلته. فجأةً انتبه اللبنانيون أن هؤلاء السوريين، الذين كانوا يستدعون الحذر والريبة، ليسوا مجرد "عناصر مخابرات" ولا مخبرين. الثورة منحتهم حتى في لبنان كرامة الإنسان وعنفوانه، بقدر ما منحت اللبنانيين أيضاً شعوراً بالتواضع والخجل إزاء تلك الشجاعة التي يبديها أقرانهم السوريون في وجه سلطة لا تزال تجد في لبنان أتباعاً أكثر مما تجده في دمشق نفسها. هذا عارنا الذي يجب أن نغسله كي نستحق مشاركة الشعب السوري "ربيع المشرق العربي".
|