التاريخ: كانون الأول ٢, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الشرق الأوسط
غوطة دمشق «سجن كبير» من الركام والخوف ... وأطفالها في شوارع العاصمة يشمون «إصبع الشعلة»
غوطة دمشق: «الشرق الأوسط»
في حي جوبر شرق دمشق، وأقرب الأحياء التي كانت فصائل المعارضة المسلحة تسيطر عليها إلى وسط مدينة العاصمة السورية، لا وجود للحياة بالمطلق، فالدمار شبه كلي في كل أرجائه، بعدما شكل الحي «خط تماس» ملتهباً بين المعارضة وقوات النظام طيلة أكثر من خمس سنوات، وذلك قبل أن يستعيد الأخير السيطرة على كامل الغوطة في بداية الصيف الماضي وتهجير الفصائل وجزء كبير من السكان إلى الشمال السوري بموجب ما يطلق عليه اتفاقات «مصالحة».

الحي يعتبر بوابة الغوطة الشرقية إلى دمشق، ولا يبعد سوى مئات الأمتار عن ساحة العباسيين ثاني أكبر وأهم ساحة في دمشق بعد ساحة الأمويين، وتتداخل أراضيه ما بين أراضي الغوطة الشرقية وأراضي دمشق، إلا أنه إدارياً يتبع للعاصمة.

أحد أهالي الحي، ممن نزحوا منه خلال الحرب، يتحدث لـ«الشرق الأوسط» عن أن الحي خالٍ تماماً من الأهالي، ذلك أن حواجز النظام تغلق مداخله بشكل محكم، وتمنع الأهالي ممن بقوا في البلاد من الدخول إليه، بعدما سمحت لهم في الأيام الأولى من السيطرة عليه بتفقد منازلهم التي «سويت غالبيتها بالأرض».

ويؤكد، أن بعض الأهالي وفي الغرف المغلقة يتحدث عن «عمليات بيع للعقارات يجري إجبار الأهالي على القيام بها لصالح أشخاص غير معروفين وقد تكثفت مؤخراً»، بعد إعلان محافظة دمشق في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي عن خطة زمنية لوضع دراسات خاصة بمناطق «السكن العشوائي» المحيطة بالمدينة، ومن ثم إعادة تنظيمها وفق القانون رقم «10»، وتتضمن مرحلتها الأولى التي ستنتهي العام المقبل، وضع دراسة تنظيمية لأحياء «جوبر»، و«القابون الصناعي»، و«برزة»، و«عشر الورور»، شمال شرقي العاصمة.

- مجرد كلام
مدينة «حرستا» التي تقع شمال الغوطة، وتحاذي حي «جوبر» من الجهة الشمالية، وتلاصق أراضيها الحدود الإدارية للعاصمة من الجهة الشرقية، تمنع حواجز النظام عمليات الدخول إليها والخروج منها، إلا لأهالي المدينة الأصليين، وغالباً ما تحصر الأمر بمن هم فوق سن 45 عاماً.

«أبو أحمد» وهو اسم مستعار لأحد أهالي المدينة ويعيش حالياً في ريف العاصمة وسبق له أن دخل إلى المدينة، يقول لـ«الشرق الأوسط»: إن «الدمار كثير وكبير ولا يزال طاغياً على معظم المدينة، ونسبة المنازل المدمرة بشكل كلي تقدر بـ80 في المائة، والتي تحتاج إلى عملية إعادة ترميم كبيرة نحو 10 في المائة، بينما تصل نسبة المنازل التي يمكن السكن فيها بعد عمليات ترميم بسيطة إلى 10 في المائة»، ذلك أن المدينة شهدت معارك عنيفة للغاية بين فصائل المعارضة وجيش النظام وحلفائه.

حركة الناس في شوارع المدينة بسيطة جداً، إن لم تكن نادرة، وتقتصر على قلة قليلة تأتي لساعات معدودة، خصوصاً في يومي العطلة الرسمية (الجمعة والسبت) تتفقد خلالها منازلها، وفق «أبو أحمد» الذي يؤكد أنه «لا يمكن العيش حالياً في حرستا حتى لمدة 24 ساعة بسبب عدم وجود مقومات للحياة».

«أبو أحمد» يضيف: «لا يوجد كهرباء ولا ماء ولا صرف صحي. وعدنا (النظام) منذ أكثر من ستة أشهر بإزالة الركام وفتح الطرقات وإعادة الخدمات، وحتى الآن لم نرَ شيئاَ من ذلك»، ويوضح أنه «كانت هناك وعود بدفع تعويضات للأهالي تساعدهم في إعادة بناء أو ترميم منازلهم، ولكن حتى الآن الوعود مجرد كلام. بعض الأهالي ممن لم تدمر منازلهم بشكل كلي ويمكن ترميمها يقومون بذلك بشكل تدريجي على نفقتهم الشخصية. حتى أننا لم نرَ أي مساعدات من منظمات أو هيئات (دولية)».

عدا عن ذلك، يكشف «أبو أحمد»، أن منازل أهالي المدينة المشرفة على الطريق الدولية دمشق - حمص في منطقة حرستا، أقدم النظام على «نزع ملكيتها» من الأهالي، بعد أن كانت تلك المنطقة «خط تماس» ملتهباً، حيث سيطرت فصائل المعارضة ولفترات طويلة على الطريق في تلك المنطقة وقطعتها، مما دفع النظام إلى الاستعاضة عنها بطريق بديلة تمر عبر بلدات القلمون الشرقي للوصول إلى المناطق الواقعة في وسط البلاد وغربها. ويقول: «النظام استملك أراضي بعرض 80 متراً غرب الأوتوستراد، ومثلهم شرقه، وبطول 3 كيلومترات. هدم بيوت الناس. حتى أنه هدم جامعاً هناك قبل يومين. هذا كله بدافع الانتقام وسرقة لأرزاق كان من المستحيل أن يحصل عليها. سرق أراضينا». ويضيف: «يخططون لبناء أبراج سيكون للمتعهد 50 في المائة وللملاك المتحاصصين 50 في المائة. هذه سرقة لقد كنا نأخذ كملاك أرض 90 و93 في المائة وللمتعهد 10 أو 7 في المائة».

بعد أن يلفت «أبو أحمد» إلى توفر وسائل مواصلات من وسط العاصمة إلى مدخل المدينة الغربي، يوضح أن تلك الوسائل لا تستطيع الوصول إلى وسط المدينة بسبب حجم الدمار الكبير، وبالتالي من يقع بيته في وسط المدينة يتكبد عناء السير وسط أكوام الردم لمسافات بعيدة من أجل الوصول إليه.

أبرز العوائق التي يعاني منها الأهالي في عمليات ترميم منازلهم هي إدخال المواد الأولية إلى المدينة بسبب تحكم عناصر الجيش والقوى الأمنية على الحواجز بذلك، بحسب «أبو أحمد» الذي يشير إلى أنه «في بعض الأحيان يسمحون بذلك بعد أخذهم رشى تقدر بأضعاف مضاعفة لسعر تلك المواد، وفي بعض الأحيان يمنعوننا من إدخال تلك المواد بشكل مطلق، ويبدو أنهم لا يريدون لمناطقنا أن تعود إليها الحياة وأن نعود إليها».

«أبو أحمد» الذي يشير إلى أن عودة الأهالي من بيوتهم يمكن السكن فيها بعد ترميمات بسيطة «ضعيفة جداً»، وتقتصر على كبار السن، ويلفت إلى أن العودة تحتاج إلى «موافقات أمنية» من النظام تتخللها «إجراءات معقدة للغاية» توحي بأنها ضغوط تمارس على الأهالي تهدف إلى «عدم العودة». 

- لا عودة إلى «دوما»

إلى الشمال من حرستا، يبدو الدمار أقل بكثير في مدينة دوما أكبر مدن الغوطة الشرقية، التي لم تحصل فيه معارك عنيفة، بعد أن رضخ فصيل «جيش الإسلام» الذي كان يسيطر عليها، لـ«مصالحات» النظام في الأيام الأولى من المعركة.

الحياة في دوما تبدو شبه طبيعية «نوعاً ما» مع وجود المياه والكهرباء، ويعيش فيها نحو 200 ألف نسمة هم من سكان المدينة الأصليين وأهالي بلدات وقرى مجاورة تدمرت منازلهم من جراء المعارك، حسبما يقول لـ«الشرق الأوسط» أحد الأهالي في اتصال أجرتها معه.

المصدر يشبه دوما حالياً بأنها «سجن» لأن حواجز النظام «تمنع بالمطلق الأهالي من الخروج منها»، لكنها تسمح لنازحي المدينة بالدخول بشكل «مؤقت إليها لمدة ساعات فقط وذلك من بلدة (مسرابا) المجاورة، وذلك بعد احتفاظ عناصر الحواجز ببطاقته الشخصية لضمان خروجه من المدينة».

لكن المصدر، يوضح أنه وفي مقابل محاولات النظام عدم إعادة الحياة إلى المدينة عبر تقصد «التقليل» من المواد الغذائية وغيرها من المستلزمات المعيشية التي يسمح بإدخالها إليها على فترات متباعدة زمانياً، يعمل الأهالي على أحياء المدينة من خلال «تكثيف زراعة الخضراوات»، وإعادة افتتاح الأسواق ومحال الموبيليا والمفروشات وأجهزة الهواتف الجوالة التي يجري إدخالها بعد دفع رشى كبيرة لعناصر الحواجز، مشيراً إلى توفر «إمكانيات مادية لا بأس بها لدى الأهالي».

بعد افتتاح تجار محسوبين على النظام «أكثر من خمسة معامل لصنع (البلوك) في قرية مسرابا» أخذت تنشط عمليات إعادة ترميم المنازل» في المدينة، وذلك على نفقة الأهالي الشخصية، بحسب ما يؤكد المصدر.

المشكلة الأبرز التي يعاني منها سكان المدينة هي «حملات الاعتقال المتواصلة لشريحة الشباب» التي تقوم بها أجهزة النظام الأمنية، بذريعة إلحاقهم بـ«الخدمة الإلزامية» في جيش النظام بعد تخلفهم عنها، وذلك تنفيذاً لبنود اتفاق «المصالحة»، بحسب المصدر الذي يوضح أن شوارع المدينة خالية تماماً من الشباب الذين يمضون أيامهم حالياً مختبئين في المنازل، ويلفت إلى أن عمليات الاعتقال لا تقتصر فقط على الشبان المتخلفين عن «الخدمة الإلزامية»، وإنما «تحصل بشكل عشوائي. حتى ورقة منع التعرض الروسية لم تحمِ حاملها»، في إشارة إلى أن القوات الروسية كانت طرفاً في اتفاق «المصالحة» ولها انتشار في مدن الغوطة.

- التعليم في المنازل

المصدر يوضح، أن الأهالي يعانون من قلة عدد المدارس الصالحة لعملية التعليم بدوما والتي «تعد على أصابع اليد»، في مقابل كثافة كبيرة في عدد الطلاب، ويقول: «المدارس المتاحة يجري فيها تدريس طلاب مراحل التعليم الثلاث وعلى فترتين في اليوم، عدا عن النقص الكبير في المستلزمات التعليمية من مقاعد ومدرسين ومخابر، وعدم صيانة تلك المدارس بشكل كامل بعد الأضرار التي طالتها خلال العمليات العسكرية».

«شباب وصبايا» وفي ظل الواقع التعليمي القائم أطلقوا «مبادرة التعليم في المنازل»، بحسب ما يذكر المصدر. 

وإن وفر النظام وسائل النقل من دمشق إلى عدد من مدن وبلدات الغوطة الشرقية، فإنه يفرض حصاراً مطبقاً على كل مدينة وبلدة وقرية، ويمنع انتقال الأشخاص فيما بينها بحسب تأكيدات المصادر السابقة من الأهالي التي تعزو الأمر إلى محاصرة الشباب في أماكن إقامتهم ليسهل على النظام اعتقالهم. وتوضح أن المجتمع في مدن وبلدات الغوطة الشرقية بات يطغى عليه حالياً شريحتا الفتيات والنساء بعد تهجير الغالبية العظمى من الشباب والرجال ممكن كانوا في صفوف الفصائل المسلحة.

... وأطفالها في شوارع العاصمة يشمون «إصبع الشعلة»

دمشق: «الشرق الأوسط»
بعد يوم طويل قضاه أحمد (8 سنوات) بالتسول في شوارع دمشق، لجأ عند مغيب الشمس إلى الحديقة وسط المدينة لينال قسطاً من الراحة مكافئاً نفسه بإصبع «شعلة» - مادة لاصقة ذات رائحة نفاذة ـ يفرغه بكيس «نايليون» ثم ينفخه كالبالون قبل أن يعيد دس أنفه في فتحة الكيس مستنشقاً ما بداخله من هواء مشبع برائحة المادة اللاصقة، في عملية أشبه بعملية التنفس الاصطناعي. يرفع رأسه حاسباً الشهيق، متيحاً لرئتيه التشبع بالرائحة، لتنفثها إلى خلاياه الفتية. يكرر أحمد النفخ والشم إلى أن يثقل رأسه ويستلقي على العشب مطلقاً العنان لخياله.

«شم الشعلة»، أي مادة لاصق «نيوبرين» عادي، يعد بديلاً رخيصاً عن تعاطي المخدرات وحبوب المهدئات العصبية، إذ إن سعر العلبة 130 غراماً تباع بـ350 ليرة سورية (الدولار يعادل 488 ليرة)، إلا إنها مادة سمّية، ويندرج الإدمان عليها ضمن الإدمان على المواد الكيماوية. تأثيراتها تحصل بعد الاستنشاق مباشرة، فتمنح شعوراً بالنشوة والنشاط لمدة تتراوح بين 15 ـ 45 دقيقة، بحسب مدة التعرض للاستنشاق والكمية المستنشقة، ما يدفع الطفل لتكرار العملية، ومن ثم الإدمان.

وتفيد معلومات طبية بأن الإدمان على شم المذيبات الطيارة والمواد اللاصقة له تأثيرات خطيرة جداً، فقد تؤدي مع مرور الوقت إلى إحداث ضرر دماغي وتلف خلايا عصبية. كما قد تتسبب في حدوث جلطات دماغية جراء نقص الأكسجين وانقباض الأوعية الدموية، بسبب زيادة كمية ثاني أكسيد الكربون، وذلك إضافة إلى ما تحدثه من التهابات وطفح جلدي حول الفم والتهابات في الجهاز التنفسي وتخريب للنسيج الرئوي والقصبات، واحتمال إحداث إصابة كبدية أو هضمية مستقبلية تنتهي بالتسرطن.

المفعول المخدر للمادة اللاصقة بعلامتها التجارية «الشعلة» عرفه الأطفال المشردون في سوريا منذ عقود، كما عرفه المراهقون، لكن بعد ثمان سنوات من الحرب وازدياد أعداد الأطفال المشردين في الشوارع، طفت هذه الظواهر على السطح، وانتشر «شم الشعلة» على نحو واسع نهاراً جهاراً، إذ لم يعد يثير الجزع منظر مجموعة أطفال يتكئون على سور حديقة عامة، وكل منهم يحمل كيساً بيده يعب منه أنفاساً مثقلة برائحة اللاصق ليغيبوا عن الوعي.

همام من سكان ريف دمشق حكى عن رؤيته أربعة أطفال صعدوا إلى «السرفيس» في الطريق إلى جنوب دمشق، وكل منهم يحمل كيساً يستنشق منه «الشعلة»، وبعد لحظات بدأوا بالصراخ والضجيج، أحدهم كان يتباهى بأنه كل يوم يشم عشرين إصبع «شعلة»، ويعير رفاقه بأنه ليس بإمكانهم فعل ذلك.

سلام مراهقة (14 سنة) متشردة تقود أربعة أطفال ذكور وبنتين، علّمتهم شم «الشعلة»، كما علمتهم أساليب التسول. أحد أعضاء فريقها طفل (7 سنوات) يفشي بعض الأسرار عن سلام فيقول إنها من حي الحجر الأسود قُتلت أمها أثناء هروبهم من القصف قبل خمس سنوات.

وتداول سوريون، الأسبوع الماضي، على مواقع التواصل الاجتماعي، مقطع فيديو يُظهر طفلاً أقل من عشر سنوات وهو يشم «الشعلة». حركاته وإجاباته المختصرة لا تنم عن طفل بعمر عشر سنوات، بل عن رجل نضج قبل أوانه بكثير، بعدما قذفته الحرب إلى الشوارع، ومنّ عليه التشرد بلسان سليط وبذيء، يعينه على جلد واقع بائس.

آمال شابة جامعية ناشطة في جمعية محلية تعنى بالطفولة، تقول إن هؤلاء الأطفال فقدوا الحماية الاجتماعية، ولا أحد يكترث لأمرهم، أكثر ما تقوم به شرطة مكافحة التسول أو الأجهزة الأمنية هو إلقاء القبض عليهم وسجنهم وضربهم ثم تحويلهم إلى القاضي، ليصار إما إلى «إطلاق سراحهم إلى الشوارع أو تحويلهم إلى سجن الأحداث التعيس».

يُشار إلى تقارير إعلامية محلية قد نقلت في وقت سابق عن وزارة الداخلية إعرابها عن عدم تمكنها من الوصول إلى جميع الأطفال الذين يشمون «الشعلة»، ولا حتى محاسبة وإغلاق المحال والأكشاك التي باتت معروفة ببيع «الشعلة» للأطفال المشردين، إذ لا يوجد ما يمنع بيع مادة مشرعة قانوناً.

منع بيع مادة «الشعلة» للأطفال حل «إجرائي» يطرحه الكثير من السوريين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن إياد وهو معارض من سكان دمشق يرى أنه ليس حلاً على الإطلاق، فالمشكلة ليست في الظواهر الناشئة على هامش التشرد الذي أفرزته سبع سنوات من الحرب، وإنما في «النظام وحكومته العاجزة عن تحمل المسؤوليات الاجتماعية والأخلاقية في احتواء آلاف الأطفال المشردين ومعالجة أوضاعهم بشكل جذري».

وتشير «الشبكة السورية لحقوق الإنسان»، في تقرير لها صدر الشهر الحالي، إلى أن ثلاثة ملايين طفل سوري محرومون من التعليم، حيث سجلت سوريا واحداً من أدنى معدلات الالتحاق بالمدارس على مستوى العالم. ووثق مقتل 28226 طفلاً، منهم 22444 قتلوا على يد قوات النظام، كما لفت إلى وجود 3155 طفلاً قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري في سجون النظام.