التاريخ: شباط ٤, ٢٠١١
 
سقطت «الدولة الأمنية» ويبقى الإجهاز عليها!

طيب تيزيني


في اليوم التالي على سقوط بغداد وزعتُ بياناً في دمشق كتبته بخط اليد، وحمل العنوان التالي: إفتحوا الدائرة أنتم، قبل أن يفتحها الأغيار! أما ما جاء فيه فقد تمثل في الدعوة إلى عقد مؤتمر وطني يجمع بين ممثلي كل السوريين من أقصى اليمين الوطني والقومي الديموقراطي إلى أقصى اليسار الوطني والقومي الديموقراطي، بحيث يكون هذا مدخلاً إلى تأسيس مشروع جديد في النهضة والتنوير؛ مع الإشارة إلى أن ذلك يقتضي أن يمر عبْر مجموعة من الحيثيات الحاسمة في تأثيراتها الراهنة ضمن كل البلدان العربية دون استثناء، وإنْ على نحو يأخذ بالاعتبار خصوصياتها. وقد تبلورت هذه الحيثيات لاحقاً، وتبلورت معها قضايا أخرى. أما الحيثيات المعنية فهي الوجه الآخر النقيض للعناصر التي يقوم عليها «قانون الاستبداد الرباعي»، التي هي الأربع التالية: الاستئثار بالسلطة والاستفراد بها أولاً، وبالثروة ثانياً، وبالإعلام ثالثاً، وبالمرجعية الوطنية رابعاً.


أما القضايا الأخرى فتجسدت بإجراءات يمتد عمر بعضها خمسين عاماً تقريباً. وتفصح هذه القضايا عن نفسها بمجموعة من الأمور السياسية والاقتصادية والقضائية الخ. التي يبرز من ضمنها سيطرة قوانين الطوارئ والأحكام العرفية؛ وبقاء السلطة أبداً دون تغيير عبر القاعدة السياسية القانونية المعروفة وهي التداول السلمي والدستوري للسلطة؛ ونفي وجود حراك سياسي ديموقراطي ومن ثم نفي الإقرار بالتعددية السياسية والحزبية والثقافية الخ؛ والاستئثار الشَّره بكل أو بمعظم المشاريع التي تدر مليارات من الدولارات الخ.


إن ذلك الذي أتينا عليه يُفضي بنا لوضع اليد على ما نعتبره الاستراتيجية العظمى والحاسمة في إطار «الدولة الأمنية». أما هذه الاستراتيجية فتتمثل في المبدأ الواضح التالي: يجب أن يُفسد من لم يُفسد بعد، بحيث يصبح الجميع (من أبناء الشعوب العربية) ملوّثين ومدانين تحت الطلب. وهذا هو الوجه الأول من الاستراتيجية إيّاها؛ أما وجهها الآخر فيقوم على التواطؤ مع العدو الإسرائيلي وعقد اتفاقيات غير مكتوبة معه، يقف في مقدمتها الإقرار بكليْهما معاً: إقرار الواحد منهما بالآخر، بصيغ تجعل الفريقين يتحركان على أساس علني يقوم على القاعدة التالية: الإعلان عن أن الواحد منهما يقف في صراع مع الآخر، وذلك بالصيغة الملفّقة التالية: لا صوت يعلو على صوت المعركة. وقد راح هذا القول يتغير على نحو انتهى إليه، هو: عملقةُ العدو والأعداء، وتعاظم في تقزّم القوى التاريخية العربية.

الأنظمة الأمنية
وحين نضع ذلك كله في سياق التحولات العظمى العالمية، التي أفْضت إلى ما أفضت إليه في بغداد واليمن والسودان، والآن في تونس ومصر، إذن، حين نضع هذا وذاك مِمّا لم نذكر، قد يتضح أمامنا شعار ذو شقين اثنين: تصديع العالم العربي بعد تفكيكه طائفياً ومذهبياً واقتصادياً سياسياً واستراتيجياً، ومن ثم وضعه مخترقاً بكل الاعتبارات. فالأنظمة الأمنية العربية المجسِّدة لـ «الدولة الأمنية»، قادت شعوبها إلى حدّ السيف: إفقار مطرد متسارع، واستباحة لحقوقهم الشرعية، ومطاردة لحرياتهم. كما علمنا من دراسات ميدانية تمت في عدد من الجامعات العربية الرسمية والخاصة، إن ثمّة حالة من الفساد والإفساد والفوضى يهيمن فيها، بحيث تحول كل شيء فيها إلى «سلعة» تمحورت حولها ثلاثة مصادر هي الجنس المسوَّق والمال المبيَّض (الحرام)، ورجل المخابرات؛ مع عنصر آخر رابع ينتشر الآن في تلك الجامعات، كما تنتشر النار في الهشيم؛ نعني بذلك المخدرات؛ ويتساءل مجموعة من الباحثين وأساتذة جامعيين عمّا آل إليه المثل الشهير التالي: الحرة لا تأكل من ثديها. ويشير هؤلاء وآخرون إلى النسب المضطردة في تسارعها على الأصعدة الثلاثة: الدعارة والمخدرات والفساد الجامعي (بيع الأسئلة والطالبات إلى درجة أنتجت المطلب التالي: إدفعْ، أو إرفع! أما الفقراء والمفقرون فأصبحوا من سكان الشوارع بكل ما يرتبط بهم من محفزات: بيع الجنس على عينك يا تاجر. ويبرز هذا بالعين المجردة ومن جانب آخر، تطلع مصادر الإعلام المحلي لتطمئن أولئك الفقراء والمفقرين المذلين المهانين في كل ما يملكونه، بأن «أعطيات» الرئيس أو المحافظ أو سيد القرار لن تتوقف تجاههم، في وقت فُتحت أسواق البلد لعتاة اللصوص في الداخل والخارج. إن ما قيل عن زوجة رئيس تونس السابق من أنها هرّبت كمية يصل وزنها إلى مقدار طن ونصف الطن من سبائك الذهب، إن هذا أصبح جزءاً من الممارسات الإجرامية، التي يقوم بها الثالوث الشهير: رجال الأعمال، ورجال السلطة ورجال الأمن الحاكمين في الدولة الأمنية؛ وهؤلاء موجودون حيثما نظر الفقراء والمفقرون في الوطن العربي، وهوالمنطقة الأكثر ثراء.
[[[


لقد جاءت الانتفاضتان العظيمتان في تونس ومصر «في وقتهما». لقد صدّعتا أركانها على رؤوس صانعيها. وإنه لجدير بالاهتمام المركّز أن يأتي هذان الحدثان العملاقان، بعد أن دخلت أو تكاد أن تدخل مجموعات من الفقراء والمفقرين (والمثقفون من ضمنهم) في أتون اليأس المتدفق من الداخل والخارج. وانتشر الاعتقاد في أوساط هؤلاء، خصوصاً مع انتشار العولمة التي رفعت المطالب التاريخية للعرب إلى أقصاها: كيف نتمكن من أن نبقى داخل التاريخ الحي في عصر العولمة، التي نعرّفها – على نحو أولي – بأنها النظام السياسي الاقتصادي والعسكري والثقافي، الذي يسعى إلى أن يبتلع الطبيعة والبشر وأن يعيد بناءهم ويخرجهم سلعاً في السوق الكونية السلعية؛ هذا بعد أن بشّر بأن الوطن والدولة الراعية ومنظومات القيم التقدمية الحافزة وغيرهم، قد ولّت دون رجعة. وفي هذا السياق، ينبغي تصويب القول بأن «الدولة» الدستورية القانونية، أي الدولة الراعية وما يحيط بها مراقبةً وضبطاً من مظاهر مجتمعات مدنية، بأن نعلن: أن «الدولة الأمنية» تقوم على تعقّب المجتمع كله (هنا العربي)، على اختلاف مع «الدولة البوليسية العميقة»، التي تتجسد مهمتها في تعقّب خصومها السياسيين والاقتصاديين وغيرهم.


فإذا صُنع البشر على نحو يحولهم إلى مُفسَدين ومُفسِدين، فإن رهانات على مشاريع جدية تنهض بالوطن ستصبح من مخلفات عصور الثورات والانتفاضات وحركات التحرر ومشاريع النهوض والتقدم والتنوير؛ وهذا ما تسعى الدول الأمنية العربية إلى تحقيقه بصيغ ترافقها مثل الطائفية والظلامية الدينية والسياسية؛ فحينئذ يحدث تقاطع ذو دلالة هائلة مع فوكوياما، الذي يعتقد أن التاريخ قد أُغلق، إلا ذلك الذي يأتي تحت راية العولمة الامبريالية الأميركية ومن يلتزم بها خارجاً وداخلاً، وهذا بدوره، يتقاطع كذلك مع دعاة المستشرقين الذي يتحدث أحدهم وهو كابلان إذنْ، نحن نرى فيما يحدث في تونس ومصر إشارات لامعة على أن التاريخ العربي قد راح يمتطي التاريخ الحي المتدفق. فلهما الحب الغامر والوعد القاطع بأننا سنحافظ على هاتين الشمعتين (وعلى شموع أخرى عربية تطل علينا قريباً).
(كاتب سوري)