التاريخ: شباط ٤, ٢٠١١
 
«صنع في الشرق الأوسط»

الجمعة, 04 فبراير 2011
وليد شقير


تكتسب نظرية «الدومينو» بعداً آخر مع انتفاضة الشعب المصري بعد انتفاضة شعب تونس، ومع ما تشهده المنطقة العربية من تفاعلات في غير بقعة ودولة تختلف ظروفها وأوضاعها بعضها عن بعض اختلافات موضوعية وبنيوية كبيرة. فـ «الدومينو» الذي أراده «المحافظون الجدد» في أميركا من هجومهم على الشرق الأوسط باحتلال العراق، بحجة واهية هي إقامة الديموقراطية في الدول المحيطة، كان وهماً من الأساس، وفشل، كما كان متوقعاً له، بعد أشهر قليلة من السيطرة على بلاد الرافدين، وهو ما أدى الى بدء تهاوي هؤلاء «المحافظين الجدد» في أميركا نفسها بدءاً من سقوط منظِّرهم الأساسي ريتشارد بيرل آخر العام 2003.


أما «الدومينو» الذي نشهده الآن، حيث يُسقِط حجر اللعبة زميله حين يقع عليه، فإنه اللعبة الأصلية والحقيقية البعيدة من أحلام وجنون «المحافظين الجدد». فالأحجار تتحرك ليسقط الواحد تلو الآخر بفعل حركة نشطة ولدت في رحم كل مجتمع تهب فيه رياح التغيير من داخله وليس بدفع من الخارج، مهما كان دور هذا الخارج.


بما شهدته تونس وتشهده مصر، تثبُت صحة الرفض العربي والأوروبي لجموح إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش نحو التغيير بالقوة، حين امتنع الأوروبيون، في طليعتهم الرئيس الفرنسي جاك شيراك آنذاك، عن مسايرة سياسته التي غلّفها قدر من الشوفينية والعنصرية والأحكام المسبقة حيال العرب في سعيه الى التغيير نحو الديموقراطية، وحين اعتبروا ان خصوصيات المجتمعات لا تتيح الاتجاه نحو الشرق الأوسط الواسع الجديد، لأنه تغيير لا يمكن أن يأتي من الخارج.


وليس هذا الاستنتاج هو الوحيد من دروس تونس ومصر وغيرهما، من التفاعلات التي يشهدها الشرق الأوسط المرشح لأن يجدد نفسه بنفسه. وهذا أمر يقاس بالسنوات وليس بالأشهر أو بكبسة زر.
فالمحرك الداخلي في كل من المثلين الأخيرين، على رغم أوجه الاختلاف في كل من المجتمعين المصري والتونسي، وموقعي البلدين، يقوم على تراكم النقمة على مدى عقود، إزاء الثالوث الذي ترتكز عليه الأنظمة المتداعية: بُنى سياسية تضمن الأحادية في الحكم وتحول دون التعددية، قمع بوليسي وأمني تتداخل من خلاله القوة الأمنية والعسكرية مع البنى السياسية لتصبح شريكة في الحكم والمغانم، وأخيراً طبقة من رجال الأعمال ذوي الثروات الفاحشة المستندة الى الفساد الذي يغذي النظام السياسي والبنى العسكرية بالمنافع والرشى وقوة الاستمرار.


إلا أن تراكم النقمة على القهر المتمادي من هذا الثالوث ليس كفيلاً وحده بتفسير ما يحصل. فهذا الثالوث، ولا سيما طبقة رجال الأعمال، يحتاج الى جيش من العاملين كي يخدم الاقتصاد المركنتيلي الذي يقوم عليه النظام. وهو بالتالي يحتاج الى المتعلمين من الشباب، الذين ازداد عددهم على مدى جيلين أو ثلاثة، فتصاعدت أعداد العاطلين عن العمل منهم بفعل سوء توزيع الثروة. هؤلاء كانوا وقود الانتفاضة. وليس صدفة أن فعالية هؤلاء كانت أكبر من فعالية الأحزاب، وأن عنصر الشباب المتعلّم استخدم الوسائل الجديدة التي أخذ العالم يندهش من دورها في الانتفاضة (تويتر وفيسبوك والخليوي) لأن الإعلام الجديد فاق تأثيره ذلك الذي تلعبه الفضائيات. وبدا أن الصفة الليبرالية التي تغلب على هؤلاء، وهويتهم المنفتحة والحديثة والعفوية، غير الحزبية وغير الدينية، الطاغية عليهم، أعطتهم مرتبة الريادة في ما شهدت مصر وتونس، قياساً الى أدوار الأحزاب، حتى العريقة منها. وإذا تكررت ريادة هؤلاء في دول أخرى، فإنهم قد يكونون عنصراً مساعداً على تخطي الانقسامات العمودية، الطائفية والقبلية في مجتمعات أخرى، التي تستعين بها الأنظمة على حماية ثالوث القمع السياسي والقمع الأمني والفساد المالي والاقتصادي.


استنتاج آخر لا بد منه: أجندة الانتفاضتين داخلية أساساً. على الأقل هكذا انطلقتا. وفي حالة مصر، فإن رفع شعار «الكرامة» في ميدان التحرير يرمز الى أن الديموقراطية هي الطريق لاستعادة دور مصر الإقليمي التاريخي، المغيّب، سواء في الصراع العربي – الإسرائيلي أم في أزمات المنطقة الكثيرة.


«الدومينو» هو عدوى. ومن الطبيعي أن تنسب الأحزاب الإيديولوجية الى خطها السياسي فوائد ما يحصل، لكن ما يجب التوقف عنده هو السؤال عما إذا كانت العدوى جاءت من الثورة الإيرانية، أو من الأوكرانية أو من 14 آذار 2005، أو من التظاهرات الضخمة عربياً ودولياً ضد الحرب على لبنان وغزة، أم من الانتفاضة في إيران احتجاجاً على نتائج الانتخابات الرئاسية عام 2009 (وفي الأخيرة أوجه تشابه مع مصر في عملية قمع الانتفاضة)، أم أن العدوى جاءت بفعل هذه الأمثلة مجتمعة؟