التاريخ: آب ٢٤, ٢٠١٨
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
النظام يستوعب الميليشيات بحوافز قصيرة المدى استراتيجية تشجع النزاع لا السلام في سوريا
موناليزا فريحة 
منذ اطلاق النظام السوري عمليات المصالحة مع فصائل من المعارضة في رعاية روسية، بدءاً من ريفي دمشق ودرعا عام 2016، سعى الى تشجيع المقاتلين على القاء أسلحتهم والانخراط في صفوف قواته وميليشياته، مقابل السماح لهم بالبقاء في منازلهم ومناطقهم وتجنب الترحيل الى ادلب. ومذذاك، انخرط الآلاف منهم في صفوف النظام، الا أن شكوكاً كبيرة أثيرت دائماً حول هذه الاستراتيجية وفرص نجاحها قبل نهاية الحرب وفي غياب خطة سياسية شاملة لحل النزاع السوري المستمر منذ سبع سنوات. 

شكلت الحروب الطائفية التي شهدها الشرق الاوسط مفخرة للميليشيات الطائفية. ومع وضع تلك الحروب أوزارها من لبنان في تسعينات القرن الماضي الى العراق حالياً، كانت الدعوة الى دمج الميليشيات في الجيش الوطني، وصفة مفترضة لتحقيق المصالحة بين أفرقاء النزاع.

في لبنان، سجل الانتقال من حال الحرب الى حال السلم، نجاحاً نسبياً، وتحديداً في التعامل مع قضية حل الميليشيات الذي حصل بسلاسة. وتم استيعاب مقاتلين منها بشكل افرادي في الجيش الوطني والمنظومة الأمنية كجزء من الحل، وخضع هؤلاء لدورات جديدة في التربية المدنية. لكن التجربة اللبنانية أصيبت بشلل بنيوي من ناحية أخرى نتيجة الاستثناء في ما يتعلق بـ"حزب الله" واتسمت بطابع مميز أيضاً مع تحول زعماء الحرب أنفسهم رجال الدولة، فخلعوا بزاتهم العسكرية وارتدوا ثياباً مدنية، وهم يحتلون مذذاك أعلى المناصب في الدولة.

ومنذ اطاحة نظام الرئيس السابق صدام حسين، كان تشكيل جيش عراقي بقيادة موحدة خطوة أساسية، لكن الضم عمليّاً اقتصر على ميليشيا تدعمها ايران مباشرة، الأمر الذي استفز المكونات الاخرى، وخصوصاً بعد حل حكومة نوري المالكي "قوات الصحوة"، التجمعات العشائرية السنيّة التي أنشأتها القوات الأميركية لقتال "القاعدة"، ووقف الحكومة رواتب أفراد هذه القوات، من غير استيعابهم كما حصل لاحقاً مع قوات "الحشد الشعبي". وأثار الأمر في حينه ردات عدوانية ساهمت لاحقاً في اشاعة الاجواء التي أتاحت نشوء تنظيم "داعش".

  وفي الحالتين العراقية واللبنانية، حصل الدمج كجزء من اتفاقات سياسية شاملة وافق عليها أطراف النزاع . أما في سوريا، فقد اتخذت التجربة منحى مختلفاً، إذ يرغم النظام السوري مسلحي المعارضة الذين يلقون أسلحتهم على الانضمام الى ما سمي اتفاقات مصالحة وقعت مع فصائل معارضة في مناطق يستعيد السيطرة عليها. فمنذ 2015، كانت الخطة الروسية للحل السياسي لسوريا، تقضي بتجميد القتال مع "الجيش السوري الحر" وفك الحصارات المتبادلة، وإجراء انتخابات نيابية وانتخابات رئاسية في ظل حكومة انتقاليّة، وفي مرحلة لاحقة ضم الميليشيات الحليفة للنظام إلى الجيش النظامي، ثم دمجه مع "الجيش السوري الحر". ولكن مع فشل الروس في حشد تأييد معارض للخطة، بدأ تطبيق خطط الدمج على الفصائل المقاتلة، بعد أنواع مختلفة من الضغط شملت القصف والتجويع والحصار.

20 ألف مقاتل

وفي ورقة بحثية في موقع معهد "تشاتام هاوس" البريطاني، كتب الباحث في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حايد حايد، أن النظام السوري يستخدم مذذاك نوعاً من الحوافز القصيرة المدى لحشد العدد الأكبر من مقاتلي المعارضة إلى صفوفه. وحصل ذلك في كل المناطق التي تمكن من السيطرة عليها. وأبلغ حايد "النهار" أن مستوى نجاح تلك العمليات يختلف بين منطقة وأخرى "وحتى الآن لا معلومات رسمية عن عدد مقاتلي المعارضة الذين التحقوا بصفوف النظام ولا أسماء الفصائل التي كانوا ينتمون اليها"، وإن يكن يمكن القول إن أفراداً من الفصائل كلها بادروا الى الالتحاق بقوات نظامية. وتقدر تقارير اعلامية بأكثر من 20 الفاً عدد المقاتلين من مختلف الفصائل في الغوطة الشرقية وجنوب دمشق الذين انضموا الى النظام وقواته الرديفة منذ آذار 2018.

وكانت فصائل الغوطة الشرقية الاكثر شراسة في مقاومة النظام قبل أن يشن عليها حرب الارض المحروقة. وشكل اتفاق إجلاء مسلحي حركة "أحرار الشام" من مدينة حرستا فاتحة لاتفاقات أخرى سرعان ما صارت شاملة لكل التنظيمات المسلحة في الغوطة الشرقية، الامر الذي اعتبر إنجازاً استراتيجياً للرئيس بشار الاسد منذ سيطرته على الجزء الشرقي من مدينة حلب عام 2016.

 ولم يكن سهلاً تحقيق اتفاقات المصالحة التي لا يزال سوريون كثر يسمونها تهجيراً قسرياً. فغالباً ما كانت تسبق تلك "النهايات السعيدة" عمليات حصار طويل وقصف عشوائي وتجويع للضغط على مناطق المعارضة للاستسلام. وأوضح حايد أن لجاناً مؤلفة من وسطاء محليين لهم صلات بالنظام كانت تتولى التفاوض على اتفاقات الاستسلام. وما إن يتم التوصل إلى هذه الاتفاقات، تتولى لجان التفاوض تسجيل أسماء المقاتلين المسلحين والناشطين، وما إذا كانوا يرغبون في الرحيل أو البقاء في مناطقهم. وبعد ذلك، حتّى تتولى أجهزة استخبارية وأمنية متفرقة تحديد من يستطيع البقاء ومن ينبغي نقله إلى مناطق أخرى خاضعة لسيطرة المعارضة.

التجنيد الالزامي

وتحدث حايد عن التجنيد الإلزامي "أكثر أساليب النظام شيوعاً في دمج مقاتلي المعارضة السابقين في القوات المسلحة الرسمية". فعند إنجاز اتفاقات المصالحة، يفرض على المقاتلين السابقين الذين تراوح أعمارهم بين 18 و42 سنة والذين لم ينجزوا الخدمة العسكرية الإجبارية، الالتحاق بالجيش. ويمنح هؤلاء مهلة ستة أشهر لتسوية أوضاعهم، والتسجيل لدى شعبة التجنيد في المناطق التي تحدد لهم. أما الناشطون الذين لا يتقدمون طوعاً إلى التجنيد في المهلة المحددة، فيعتقلون ويساقون قسراً إلى التجنيد. وفي حالات عدة، اعتقل كثيرون قبل انتهاء المهلة المحددة لهم لتسوية أوضاعهم وسيقوا إلى التجنيد.

ولا يقتصر هدف ضم هؤلاء المقاتلين السابقين، كما أفاد حايد، على توفير قوة بشرية للجيش، وإنما يشمل أيضاً جعلهم يتبنون الموقف السياسي الرسمي للنظام. ويرغم المجندون على الالتحاق ببرامج سياسية لإعادة التوجيه ترمي إلى تلقينهم إيديولوجيا البعث وتبني رواية النظام عن الثورة.

قوات الدفاع الوطني

الى ذلك، نشطت الوساطات لجذب مقاتلين معارضين سابقين الى ميليشيات مؤيدة للنظام على غرار قوات الدفاع الوطني أو الكتيبة الخامسة بقيادة روسية. ومع أن الخدمة في مثل هذه القوات قد تكون أخطر من الخيارات الأخرى كالالتحاق بأجهزة الشرطة المحلية، فإن الغالبية وافقت طمعاً برواتب أعلى من تلك التي تتقاضاها القوات النظامية من الجيش والشرطة.

وفي ورقته البحثية، أورد حايد أن غالبية المقاتلين المعارضين السابقين الذين بقوا في التل في ريف دمشق قرروا الانضمام الى "درع القلمون" التابعة لقوات الدفاع الوطني.

أتاحت هذه الآليات للنظام، على الأقل حتى الآن، إعادة دمج مقاتلين سابقين في المناطق التي يسيطر عليها. الا أنها قد تؤثر سلباً على عودة اللاجئين السوريين، وخصوصاً في ظل ترحيب النظام بأولئك الذين هربوا من الارهاب فحسب.

في رأي حايد أن تلك الجهود التي تعتمد على آليات قمعية قصيرة الأمد غير قادرة على توفير الظروف الملائمة والمحفزة لعودة اللاجئين والنازحين داخلياً الى مناطقهم. كذلك، يشكل عدم الغاء التجنيد الاجباري عائقاً أمام عودة اعداد كبيرة من الشبان الهاربين منها.

وتفتقر آليات الدمج خصوصاً الى اطار أوسع من الإصلاح السياسي والمؤسساتي لعمل النظام السوري ومؤسساته الاساسية، وخصوصاً مؤسسات القوات المسلحة والفروع الامنية التي كانت انتهاكاتها دافعاً أساسياً للسوريين الى التظاهر. وخلص حايد الى أن الاعتماد على حلول جزئية مثل عمليات الدمج لن تغني عن استراتيجية شاملة لمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات واحلال العدالة الاجتماعية والسياسية من أجل مستقبل مشترك لجميع السوريين.

وقد أورد اتفاق السلام الموقع بين الحكومة الفيليبينية و"جبهة تحرير مورو الإسلامية"، الموقع عام 2014 والذي حقق نجاحاً نسبياً، نموذجاً يمكن اعتماده في سوريا.