التاريخ: شباط ٣, ٢٠١١
 
مصر وأزمة التغيير العربي

الخميس 3 شباط 2011

ناصيف حتّي


تتجه أنظار العرب والعالم كله إلى مصر قلب العالم العربي، رغم التهميش الكبير والتراجع اللذين أصابا كلاً من المكانة والدور المصريين في العالم العربي والشرق الأوسط وافريقيا، حتى صارت مصر، حسب وصف أحد الأصدقاء المصريين بمثابة رجل الشرق المريض في مطلع هذا القرن كما كانت الامبراطورية العثمانية رجل أوروبا المريض في مطلع القرن الماضي. مصر التي تعيش معركة التغيير التي أطلقت شرارتها تونس، التغيير الذي بدأت ظواهره تنتشر في المجتمعات العربية من جهة والخوف منه ومحاولة استباقه واحتوائه من السلطة العربية من جهة أخرى إذ نرى تغييراً حكومياً هنا وكرماً سلطوياً للطبقات المهمشة والفقيرة هناك ووعوداً بالتغيير في كل مكان.


هل يعيش العالم العربي "ربيع العرب" وكان الكثيرون خارج العالم العربي ومعهم كثير من المستفيدين العرب من الوضع القائم قد اعتبروا ولو من مواقع مختلفة ان العرب "محصنون" ضد الديموقراطية وعندهم مناعة ضد التغيير لأسباب تتعلق بثقافتهم السياسية، وبالتالي يمكن الحديث عن الاستثناء العربي والتنعم بنتائجه. صحيح ان لكل عملية تغيير خصوصياتها وسماتها ومسبباتها وعناوينها وعناصر تفجرها وسياقاتها لكن العرب أثبتوا أنهم في نهاية الأمر يشتركون اقليماً وفرادى مع العالم في ان الوصول إلى نقطة اللا عودة يؤدي إلى رد فعل شعبي رافض لأوضاع قمعية وغير طبيعية، وان هنالك بعد ذلك مراحل للمخاض الديموقراطي لا بد من المرور عبرها أياً كانت نتائجها. جنوب اوروبا عاشت هذا الأمر في منتصف السبعينات من القرن الماضي وأميركا اللاتينية في الثمانينات وأوروبا الشرقية ودول الاتحاد السوفياتي مرت بذلك مع سقوط جدار برلين.


شخصنة السلطة التي صارت بدورها اسيرة للأسرة والموالين وسيطرة حزب الموالين على السلطة كلياً وبالتالي على مقدرات الدولة وشل المؤسسات أو إلغاءها وقتل السياسة أو الفضاء الحواري التنافسي النقدي للأفكار والبرامج وللاختيار الذي توفره السياسة وتدجين أحزاب وخلق أحزاب أخرى لتوفير ديكور ديموقراطي وتقديم الاستقرار المفروض بالتخويف وليس الشرعي الناتج من عقد اجتماعي بين الدولة والمجتمع، كبديل وحيد للفوضى والدمار والدخول في المجهول كلها سمات للنظم الشديدة السلطوية. ما جرى ويجري وقد يجري من انتفاضات في العالم العربي هي الأكثر ديموقراطية في تمثيلها وأهدافها وتطلعاتها، تأتي نتيجة لعنصر الانفجار الديموغرافي الذي نشهد تداعياته عبر وصول أجيال جديدة إلى سوق العمل، بعد أن تمت السيطرة عليه، وعنصر التطور التكنولوجي الذي خلق ديموقراطية المعلومات وانتشارها. البعض يتحدث عن نحو خمسين مليون وظيفة يجب خلقها في السنوات العشر القادمة في العالم العربي لاستيعاب تداعيات الديموغرافيا العربية. انتفاضات قادها الشباب أمام انسداد الأفق في وجههم وتزايد مشاعر البؤس والمهانة ومظاهر التحريض التي يرونها وقدرتهم على المقارنة مع من هم من اجيالهم وتطلعاتهم في أماكن أخرى في العالم، انتفاضات شارك فيها الجميع تعبّر عن المشترك الوطني الذي يتخطى السياسي والمناطقي والقطاعي والايديولوجي. هذه هي أهم سمة عصر الانتفاضة العربية تقوم بها شعوب تريد انقاذ المستقبل بعد أن رأت الحاضر يتداعى وشاهدت الأمس وقد نحر. ما يجري في مصر ايضاً يحمل بُعداً آخر مقارنة بما حدث في تونس وسببه الأهمية الجيو استراتيجية لمصر وكون التغيير فيها أياً كانت اتجاهاته ونجاحاته سيلقي بثقله على المنطقة بأسرها وعلى توازناتها وسياساتها وأولوياتها. رفعت بعض الأنظمة بالأمس النموذج الصيني بشكل خاص وبعض الآسيوي بشكل عام للحديث عن قدرة التنمية مع استمرار الاقفال السياسي. لكن المشكلة في هذا النموذج ان له حدوده وقد يصلح في فترة انطلاق عملية التنمية ولكن لا يمكن أن يستمر بشكله الاحادي القائم على الحرية الاقتصادية والانغلاق السياسي، ثم ان لهذا النموذج في لحظة معينة من تطوره مشاكل وتأزمات تطاول المجال السياسي كما بدأنا نراه في الصين الشعبية. أضف إلى ذلك ان الحالة الصينية في حجمها وموقعها وادارتها تختلف كلياً عن الحالات العربية التي تريد تقليدها.


تعامل العرب في مطلع هذا القرن بمنطق العلاقات العامة مع قضايا التنمية والديموقراطية ونذكر ثورة الخطاب الرسمي التنموي والإصلاحي العربي المشترك الذي تبلور في القمة العربية في تونس عام 2004 وجرى التعامل معه وكأنه بمثابة رد فعل لامتصاص ضغوط الخارج وتحديداً الأميركي الذي كان يحمل لواء الدمقرطة خدمة لاستراتيجيات لم تعد خافية على أحد ولم تكن الديموقراطية والتنمية على جدول أولوياتها. واستطاع النظام الرسمي ان يتخلص من ذلك الخطاب بعد أفول الموجة الأميركية الغربية، واستطاع خاصة ان يوظف تلك الموجة داخلياً من خلال استنهاض الرأي العام ضد التدخل الأجنبي الغربي وتحديداً الأميركي المرفوض لاعتبارات تبدأ في فلسطين وتمر في العراق. ثم جاءت انتفاضة تونس ليستفيق النظام العربي الرسمي على ضرورة العودة إلى الخطاب التعاوني التنموي ولكن طبيعة التركيبة السلطوية العربية بشكل عام والارث الثقيل لسلوكياتها لا تسمح بإحداث تغيير كبير طالما لم تكن هنالك ضغوط لذلك التعاون المطلوب والمنشود الذي كان يمكن أن يجيب عن بعض الأسئلة ومصادر القلق والغضب في المجتمعات العربية وليس كلها بالطبع. هذا فيما لو اتخذ ذاك التعاون السياق الطبيعي للتعاون الاقليمي الناجح، وهو أمر كان مستبعداً أيضاً لغياب المساءلة وطبيعة صنع القرار وسماته والدرجة العالية من الشخصنة الطاغية عليه والتي تمنع من التعاون التدرجي الاقليمي. سؤالان مطروحان حالياً فيما ينظر العرب والعالم إلى ميدان التحرير الذي يعبّر عن أزمة التغيير في العالم العربي: السؤال الأول يتعلق بمسار مخاض التغيير المصري في تعثراته وآفاقه، والسؤال الثاني بالمرشح أو المرشحين العرب الجدد بعد مصر لعملية التغيير. لقد عاش العرب منذ خمسين عاما ونيف عصر الانقلابات وهم يعيشون اليوم عصر الانتفاضات التي جاءت ولو متأخرة في مجمل الحالات لكنهم عادوا ليدخلوا عملية صنع التاريخ وصناعة المستقبل.عادوا إلى الجغرافيا العالمية التي حاولوا مغادرتها لفترة.
ناصيف حتّي