التاريخ: آب ١٨, ٢٠١٨
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
أرقام رهيبة عن هجرة مسيحيي سوريا... النظام لم يحمِهم، وصناديق الإعاشة لن تعيدهم
موناليزا فريحة 
وسط النقاشات الصاخبة عن اللاجئين السوريين ووجوب عودتهم الى سوريا، تحتدم السجالات في شأن من سيعود ومن سيبقى حيث هو. وتغيب عن هذا السجال مسألة أساسية تتعلق بأولئك الذين هجروا سوريا الى غير رجعة، وخصوصاً أبناء طوائف الاقليات المسيحية الذين عانوا كغيرهم من السوريين ويلات هذه الحرب، لكنهم كانوا الحلقة الاضعف فيها، مع أن النظام السوري يدعي دائماً بأنه الحامي الوحيد لهم.

كشف الصحافي بن هوبارد في تحقيق لصحيفة "النيويورك تايمس" عن القرى الاشورية في منطقة الخابور التي تحولت منطقة أشباح، صورة مؤلمة لوضع هذه الطائفة التي تعتبر من أقدم الشعوب التي اعتنقت المسيحية منذ القرن الأول الميلادي وكانت الاضطرابات المتلاحقة في المنطقة لها بالمرصاد بدءاً من الحرب العراقية- الايرانية مروراً بحرب العراق عام 2003 وصولاً الى زمن "داعش" الأسود. 

وشكلت المحنة الاخيرة لأبناء الطائفة في سوريا الضربة القاضية. فمع أن أعدادهم تنحسر منذ سنوات وسط الهجرات المتلاحقة التي شهدها المسيحيون في الشرق الاوسط بسبب الاضطهاد والفقر، سرع وصول "داعش" وتيرة مغادرتهم المنطقة، وهذه المرة الى غير رجعة، تاركة ثغرات دائمة في النسيج الاجتماعي السوري.

فعام 2015، هاجم مقاتلو التنظيم قرى الخابور الاشورية في ريف الحسكة بشمال شرق سوريا والتي تعد معقلاً للطائفة الاشورية وخطفوا ما بين 200 و250 من سكانها، قبل أن يطردهم مقاتلون محليون وأكراد بعد ذلك ببضعة اشهر ويطلقون معظم الرهائن لقاء فديات كبيرة. ولكن الصدمة كانت شديدة، ولا يبدو أن أبناء هذه الطائفة التي واجهت أشكالاً وأنواعاً مختلفة من الاضطهاد على مر السنين، لن يتعافوا  من الصدمة الشديدة التي أصيبوا بها. وقد دمر الجهاديون معظم كنائس المنطقة قبل أن يغادروا، ومذذاك هرب من المنطقة معظم المحررين مع عائلاتهم وجيرانهم، تاركين المنطقة مهجورة.  

عند بداية الحرب السورية كان عدد الاشوريين في سوريا نحو عشرة آلاف أو 15 الفاً كحد أقصى بحسب المدير التنفيذي لهيئة الدعم الأشوري في لبنان جاك جندو، الا أنه لم يبق منهم الا بضع مئات، ربما أقل من 900، بعدما نزح كثيرون منهم الى لبنان ومنه الى أوستراليا خصوصاً، "ولا أحد من هؤلاء يفكر في العودة". 

قبل فترة قدم جندو أمام مؤتمر عن الاقليات رعاه الاتحاد الاوروبي في بروكسيل تقريراً عن وضع تلك الطائفة في سوريا وقراها كنائسها وممتلكاتها. ويقول إن المنازل والممتلكات نهبت خلال الحرب، ومن أصل أكثر من 24 كنيسة لم يعد هناك الا واحدة في مطرانية الحسكة، أما القرى الـ33 التي يسكنها أشوريون فبات معظمها مهجوراً تماماً أو شبه مهجور.  

وفي تحقيقه تحدث بن هوبارد الى أشوريين باقين في سوريا، أو غادروا وأعادهم الحنين، لبعض الوقت. وأخبره أوشانا كاشو أوشانا (81 سنة) أنه خطف على ايدي مقاتلي "داعش" 30 يوماً فاوض خلالها أقاربه على اطلاقه ودفعوا 13 الف دولار.

ولا يزال كثيرون من أفراد عائلته في الخارج، وهو غادر بعد اطلاقه وانضم الى اثنين من أولاده في ألمانيا. ومن بين أولاده السبعة، لم يبق الا واحد في سوريا، ولكن ليس في القرية.

 ولا يزال أوشانا يعود الى سوريا من المانيا مرة في السنة على الاقل، حتى وإن كان ذلك يعني بقاءه وحده في بيته في قرية مهجورة تقريباً.

وقال: "إنها بلدة أشباح، ولكن قريتنا عزيزة علينا ولا نستطيع أن نتركها".

 وفي تل شميران، بقيت سميرة نقولا وحدها مع ابنها في البلدة. وهي أيضاً خطفت على ايدي "داعش" مع زوجها وأربعة من أقاربها، بينهم ثلاثة أولاد. وبعد اطلاقها، عادت الى المنزل لتجد أنه نهب مع شاحنة العائلة وبقرتين.

 أعادت سميرة ترميم منزلها وهي تعمل حالياً مع ابنها في تربية الدجاج وزراعة الخيار والعنب والزيتون، فيما يعيش أولادها الاخرون في أوستراليا وألمانيا.

 تصر سميرة على البقاء في منزلها، وتقول: "لا نريد شيئاً...ابقوا الشيطان بعيداً عنا فحسب".

ويقول ابنها نبيل يوحنا (35 سنة) إنه بقي لئلا يترك أمه وحدها، لكنه ليس متأكداً الى متى سيتمكن من المكوث في منطقة مهجورة. وأضاف: "إذا أردنا الزواج، فليست ثمة فتيات بقين هنا".

ويقول جندو إن ثمة اعتقاداً سائداً بين مسيحيي تلك المنطقة أن الداعشيين لم يكونوا جميعهم من الغرباء، وإنما كان بعضهم من أبناء المنطقة الذين سعوا الى الافادة من الفوضى. فحين خطف "داعش" الاشوريين كان هدفه الاول مادياً، مفترضاً أن أقارب لهم في الخارج سيدفعون بسخاء لاطلاقهم.

وعملياً، نجحت الخطة "داعش". فثمة كثيرون من المتمولين الأشوريين في الخارج الذين ساهموا في حملات دعم لدفع الفديات مقابل اطلاق الرهائن. 

 ووصلت قيمة المبالغ التي طالب بها المتطرفون الى 50 الفاً لاطلاق مخطوف واحد، ولكنهم قبلوا احياناً بمبالغ أصغر بحسب هوبارد. ولم تكشف الكنيسة حجم المبالغ التي دفعتها، ولكن كثيرين يفترضون أنها أكثر من مليون دولار.

ويكشف جندو إنه وجهت اتهامات الى المطرانية الاشورية في لبنان بالتواطؤ مع "داعش" بسبب دفع الفديات، ولكن "ماذا كان يمكننا أن نفعل في غياب اي مساعدة من جهات رسمية لإنقاذ أبنائنا. هل نتركهم لداعش ليقتلهم"؟

 ومع ذلك، لم يمكن انقاذ الجميع. فقد قتل ثلاثة رهائن ظهروا في فيديو وزعه الجهاديون لابتزاز مزيد من الامول. ولا يزال مصير امرأة مخطوفة مجهولاً ويفترض قرويون أنها أرغمت على الزواج من داعشي.

على رغم قرارهم البقاء في سوريا، ولو لفترة غير محدودة، لم يعد الاشوريون يثقون بالعرب في القرى المجاورة الذين يفترضون أنهم ساعدوا "داعش" ضدهم.

ليس جندو متفائلاً بامكان عودة الاشوريين الى سوريا بعد انتهاء الحرب، قائلاً: "كيف يعودون بعد كل ما تعرضوا له. فمن يضمن لهم الحماية اذا تكرر ذلك بعد عشر أو عشرين سنة. النظام يدعي حماية الاقليات الا أنه لم يفعل شيئاً لحماية الاشوريين وغيرهم، من داعش، علماً أن غالبيتهم من الموالين له. والمجتمع الدولي لم يبذل أي جهد لتمكين الاقليات من البقاء في المنطقة. "أما صناديق الأرز التي توفرها منظمات الاغاثة والمنظمات غير الحكومية فهي لا تكفي للبقاء". المطلوب في رأيه "دعم الاقليات من خلال دعم التعليم لتعزيز مؤهلات ابناء هذه الطوائف على البقاء والصمود، اضافة الى تطبيق تمييز ايجابي حيالهم".