التاريخ: كانون الأول ٤, ٢٠١١
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
مستقبلُ المشرق رهنٌ بإدارة داخلية ناجحة لدوله - ميشال أبو نجم

معطىً أكيد يبرزه مسار السياسات والأحداث العالمية، خاصةً منذ أواخر التسعينات وحتى اليوم: صعود الأمم والقوميات والصراع في ما بينها، مع شيءٍ من شهوة الإنتقام لتراجع أدوارها ونفوذها إزاء تحديات العولمة و"النظام العالمي الجديد" الذي كثُر الحديث عنه بعد سقوط الإتحاد السوفياتي.

كانت نهاية الحرب الباردة والإنهيار المدوي للشيوعية السوفياتية في العام 1991 قد أطلقت آمالاً بـ"ربيع" من التناغم العالمي بعد عقودٍ من الصراع المحموم بين القطبين العالميين، وبدت النزاعات والحروب التقليدية بين الأمم والتي اقترنت بأشباح حربين عالميتين، كأنها من الماضي وتتجه نحو الإضمحلال على طريق "نهاية التاريخ"، ليبزغَ مكانها عصرٌ جديد قوامه حرية الأسواق والتبادلات التجارية والتداخل الإقتصادي والليبرالية والسلام العالمي. وراجت مصطلحات ومفاهيم على حساب أخرى، وأفسح عصر الجيوبوليتيك الطريق لما يمكن أن يُطلق عليه "الجيواقتصاد" "Geoeconomics".


ودعمت هذه التوجهات وقائع كثيرة من بينها المسار الذي انتهجته روسيا مع بوريس يلتسين ووزير خارجيته أندريه كوزيريف في اتجاه الليبرالية الإقتصادية والتحالف مع القوى الغربية والإبتعاد عن سياسات النفوذ التقليدية والهيمنة، إضافةً إلى بروز نجم الإتحاد الأوروبي كإطار للتعاون الإقليمي ضمن مؤسسات عابرة للدول ومفاهيم عالمية جامعة، والذي ولدت فكرته أساساً في الخمسينات من رحم المآسي الأوروبية المرعبة في الحربين العالميتين بسبب الصراع بين أمم القارة القديمة والذي أدى إلى تدميرها.


لكن مسارات الواقعية السياسية ومنظريها كانوا بالمرصاد لهذه التفاؤلية العامة، فالتاريخ الإستعماري الطويل والإحساس بالمهانة القومية وتراجع الدور أعادت إطلاق "الشياطين" القومية من عقالها. ولطالما حذر هنري كيسينجر من أن "التنافس العالمي يقبع في الطبيعة الإنسانية ولا يمكن أن يتغير" ومن أنه سيعود ليطفو على السطح مجدداً. وسرعان ما أثبتت التطورات قوة الركائز لمقولة الصراع بين الأمم والقوميات.


الطموحات القومية العالمية وأسبابها
فبعد فترة قصيرة من الإنكفاء ومحاولة الدخول في المسار العالمي العام والتناغم مع الغرب الأطلسي، عادت روسيا مع فلاديمير بوتين لتستعمل الوسائل التقليدية في سياسات النفوذ والهيمنة والدفاع عن المصالح خاصة في مديين حيويين بالغي الأهمية لها، الغرب الأوراسي القريب من موسكو وجنوباً آسيا الوسطى، فضلاً عن استعادة دورها كقوة عظمى. منحها ارتفاع أسعار الطاقة والغاز موارد مالية كبيرة وثبّت اقتصادها وسمح لها بامتلاك أوراق قوية وابتزاز أوروبا التي تعتمد على مصادر الطاقة الروسية أكثر من مصادر الشرق الأوسط. وقد تمكنت موسكو من تثبيت مشاركتها وتأثيرها في القضايا العالمية المختلفة، كما يشهد على ذلك استعمالها حق "الفيتو" اخيراً في مجلس الامن إزاء الأزمة السورية .


وفي جوار روسيا كان الشعور القومي ومحاولة استعادة الأمجاد القديمة يتصاعدان في الصين التي استندت إلى نموها الإقتصادي الهائل لتحديث قوتها العسكرية وتعزيز نفوذها خاصةً في دائرة شرق آسيا والمحيط الهادئ، إذا استثنينا تركيزها الإقتصادي على إفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط. توازى ذلك مع حجز موقعٍ لها في مجموعة الدول الصناعية الكبرى G 8 ودورها المحوري في منظمة دول جنوب شرق آسيا ASEAN.


وإذا كانت الأمم بالأمم تُذكَر، فإن التنافس التاريخي بين الصين واليابان كثابتة جيوبوليتيكية في شرق آسيا، يقود إلى استنتاج مماثل بالنسبة لليابان كقوة عالمية صاعدة. فطوكيو ترتكز أيضاً إلى دعائم اقتصادية وحداثية وتكنولوجية هائلة، تمكِّنها من خوض المنافسة مع الصين على كسب الحلفاء والأصدقاء في جنوب شرق آسيا وجنوبها وأوروبا، على الرغم من الشركة الإقتصادية والتبادلات التجارية والسياحية بين بيجينغ وطوكيو. وفي مشهد الصراع بين الأمم، الهند عازمة على الإستفادة بالحد الأقصى من نموّها الإقتصادي المتسارع لحجز موقعٍ في خريطة النفوذ العالمية وتكريس دورها في شبه القارة الهندية. فالإندماج في الإقتصاد العالمي الذي قامت به نيودلهي لم يلغِ طموحاتها القومية والتي تجلّت في امتلاك السلاح النووي المنطلق من التحديات الإستراتيجية في مجابهة باكستان.


وإذا قفزنا من المشهد الآسيوي المعقّد لنطلّ على شرفة آفاق الإتحاد الأوروبي، تطلّ أمامنا ألمانيا التي باتت، وإلى حدٍ ما مع شريكتها فرنسا، صمام الأمان الأخير لتخبط دول الإتحاد في المهالك الإقتصادية والمالية، في وقتٍ بات المشروع الأوروبي الذي حلم به جان مونيه ورفاقه من النخب الأوروبية تحقيقاً لمفهوم إيمانويل كانط "السلام الدائم" Perpetual peace على المحك. فما يُطرح من حلول اقتصادية ومالية للأزمات التي تعيشها دول كثيرة في الإتحاد والتي تتمحور حول التقليص من سيادة البلدان، ليس إلا عاملاً في تحفيز "شياطين" المشاعر القومية.


وإن كان من نافل القول إنَّ الصراع بين الأمم و"عودة التاريخ" (Robert Kagan, The Return of History, 2008). والمشاعر القومية بـ"الفخر" و"استعادة المجد الغابر" و"الإنتقام للمهانة الوطنية والقومية" هي من بين الأسباب الرئيسة للنزاعات والتوتر والحروب على ما أظهرته حروب القرن التاسع عشر والقرن العشرين فضلاً عن التداعيات المحتملة على مسار الديموقراطية الداخلية، فهناك من يرى أنَّ ما يشكِّل سبباً للحروب هو "إرادة الهيمنة التي تنتهجها الدول الإقتصادية القوية". وهذا يرتبط بالتداعيات السلبية للعولمة والنيوليبرالية في الفروقات الكبيرة في النمو بين البلدان وعدم احترام المعايير العالمية في العدالة والإستقلال وحق تقرير المصير ومخاطر فقدان هوية المجموعات والشعوب والأزمات المالية والإقتصادية وبالتالي عدم الإستقرار السياسي. وإحد أبرز الأمثلة ما يحصل في المسرح الأوروبي وتداعياته المتمثلة في صعود اليمين القومي.


المشهد الشرق الأوسطي
لكن ماذا عن الشرق الأوسط الذي تتراجع في منطقته العربية مفاهيم الأمم – الدول لمصلحة واقع المجموعات الطائفية والمذهبية والقومية والإثنية؟ في استطلاعٍ سريع وسطحي، نجد أن صعود بعض القوى والتجمعات فاقع: تتنافس الأمبراطوريتان الإيرانية (الفارسية) والتركية (العثمانية) على النفوذ من المحيط إلى الخليج، وتترنح مصر (ذات التراث الأمبراطوري) بين موجبات الدور الإقليمي المحوري والتحديات الداخلية في الإستقرار وتداول السلطة والنمو الإقتصادي، في حين تبقى إسرائيل السيف المصلت على رقاب شعوب المنطقة. ويكتمل المشهد بانكفاء دول المغرب العربي إلى همومها ومصالحها، وباندفاعةٍ متوترة لدول الخليج العربي على الهيمنة بأسلحة النفط والمال ودعم الحركات الإسلامية المتشددة، اندفاعة لا أحد يعرف إذا كانت ستنجح في احتواء الدور المصري الجديد أم ستصطدم بحقائق وتوازنات إقليمية ودولية.


في هذه الصورة الشرق الأوسطية، ترتسمُ الأسئلة حولَ المشرق العربي ومآله. فمن مظالمِ القدر والبشر أنَّ هذه المنطقة، بعيداً من الإستثناء اللبناني في الحفاظ على نموذج مقبول للحرية والديموقراطية، ابتليت بأنظمةٍ استبدادية قمعية ونخبٍ فاشلة تحولت من قيادة مشاريع تحديثية وطنية إلى عصبياتٍ حاكمة مهجوسة بالدفاع عن مواقعها وامتيازاتها وثرواتها. ذلك أن هذا المعطى الداخلي تقاطع مع الصراعات الدولية والإقليمية ليخلقَ ثغرةً كبيرة أدت إلى تدمير العراق وعودة الصراع المحموم "على" سوريا وانكفاء الأردن إلى الحضن الخليجي الملكي، ويقف لبنان على خط الإنقسام الداخلي بين مجموعاته وشبح التفكك. والنتيجة انكشاف مخيف أمام هيمنة خليجية وعدوانية إسرائيلية وطموح عثماني إسلامي ونفوذٍ إيراني، تحت مظلةٍ أميركية غربية، في انتظار تبلور معالم الدور المصري، فضلاً عن انتشار الإتجاهات الدينية المتشددة. وهذا يضعُ المشرق العربي وبلدانه أمام خطر التمزق الداخلي والإقتتال الأهلي، نظراً الى نسيجه الإجتماعي الذي احتضن تاريخياً التنوع الديني والمذهبي والإثني، إضافةً إلى التحديات الإستراتيجية الخطيرة في بقائه لقمةً سائغة في أشداق الصراعات الدولية.


إدارة ناجحة للداخل
هذا هو واقع المشرق العربي، الحاضن لتوازن معقول بين مكوناته، في ظلِّ صراع القوى الدولية والأمم وصعودها. تحدياتٌ خطيرة على إيقاع تغيرات دراماتيكية، لكن مراقبة ما إذا كانت مكوناته وبلدانه ستنحو في اتجاه بلورة أفكار لتحقيق مصالحها المشتركة وحماية موقعها، لا يمكن أن يكونَ منفصلاً عن المسألة الأهم والأساس وهي كيفية إدارة الداخل في نهج عقلاني براغماتي يستند إلى ترسيخ الحرية والديموقراطية. ولن يكون ممكناً البحث في ملف المصالح المشتركة قبل تبلور الصورة النهائية لمشهد الإنتفاضات العربية ونهاياتها وخاصةً في عقدة عُقَد المشرق، سوريا. ولن يكون ذلك ممكناً أيضاً من دون بناء دول لها ركائزها الثابتة والقوية وعلى رأسها المواطنة التامة والمساواة واحترام حقوق الإنسان والحرية والإعتراف بالآخر واختلافه والإدارة الناجحة للتنوع. وبالتأكيد فإن حماية النموذج اللبناني المتنوع وديمومته وإشعاعه واستقراره هي أولوية لا تتناقض مع المصالح المشتركة للمشرق العربي بل تتكامل معها. ولهذا البحث حديث آخر.

 

(مساعد مدير مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية)