أتشكل الأحداث في سوريا حرباً أهلية أم هي مجرد عمليات قمع بوليسي ضد جماعات مخلّة بالأمن؟ الجواب يطرح "الشروط" التي يشكل توافرها أساساً للقول بوجود حرب أهلية أو انعدامها.
الحرب الأهلية هي كناية عن نزاع داخلي مسلّح ضمن حدود بلد واحد وتكون أطراف النزاع جماعات من أبناء الوطن نفسه، هدفهم التمكن من مقاليد السلطة. لا، ليس هنالك من تحديد نهائي ومعتمد للحرب الأهلية الا ان توصيف النزاع الداخلي هذا يقوم على توافر الشروط الآتية:
1 - قيام نزاع عام وشامل في سائر أنحاء البلاد أو في جزء واسع منها، مما ينفي صفة الحرب الأهلية عن حالات الاضطرابات الطارئة والنادرة. فلا الشغب ولا أعمال العنف العرضية مثل ما يدور بين الفينة والأخرى في طرابلس بين جبل محسن وباب التبانة مؤهلة عند هذا الحد لتعد منازعات مسلحة. كما لا تتوافر شروط الحرب الأهلية عند ملاحقة جماعة خارجة على القانون من قبل الشرطة القضائية كما يحصل منذ عقود في كورسيكا وفي مقاطعة الباسك في اسبانيا. ذلك أن النزاع الأهلي يختلف تماماً عن الاضراب أو الانتفاضة أو الاعتصام أوالهوشة أو العصيان أو التمرد. الحرب الأهلية ليست فتنة عابرة لا بل هي أقرب الى مفهوم الثورة العارمة، ونموذجها تلك الحرب التي دارت بين جنوب السودان والسلطة المركزية في الخرطوم والتي أدت في آخر المطاف إلى تقسيم البلاد.
2 - تصرف الثوار على أنهم جيش، أكانوا جماعة منشقة عنه أم لا. والشرط أن تكون الجماعة المسلحة نظامية تمارس عمليات عسكرية متواصلة ومنسقة بأمرة قيادة مسؤولة. وتاليا لا مجال لاعتبار التظاهرات السلمية مهما عظم شأنها في المدن السورية من ضمن هذا التعريف، كما لا يكفي ان تنشب حرب عصابات متقطعة لتأمين شرط الحرب الاهلية. فمن الشروط الأساسية نشأة جيش منظم للمتمردين قائم على مبادئ التسلسلية والانضباط. فهل إن المجموعة التي التحقت بالعقيد رياض الأسعد تشكل هذه المجموعة المحترفة حتى تاريخه؟
3 - قيام حكومة أو إدارة مدنية موقتة لها فاعلية وصلاحية من الناحية السياسية والاقتصادية، مما يعني سيطرة الثوار على إقليم جغرافي محدد يشكل منطلقا وملاذاً لهم. وعلى سلطة المتمردين أن تمارس مهمات السيادة الفعلية على تلك الرقعة، كما مارستها منظمة نمور التامول Tamoul Tigers في جزيرة سيريلانكا، وكما مثّلته مدينة بنغازي ومحيطها عند انطلاقة الثورة في ليبيا.
4 - الاعتراف بالثوار المتمردين كمقاتلين belligerents من قبل دول فاعلة ومعنية بالأحداث الدائرة، مما يعني مساواتهم بالسلطة المركزية. وهذا ما تخشاه القيادة السورية فوق كل شيء. فاحتمال الإعتراف الرسمي بـ"الجيش السوري الحر" من قبل السلطات التركية قد يدفع قدماً نحو اعتبار الأحداث حرباً أهلية، سيما أن قيادة الاخوان المسلمين ترحب بانزلاق تركي في هذا الاتجاه.
5 - استمرار النزاع لزمن ليس بقصير بما يعني عدم تمكن السلطة المركزية من قمع التمرد بشكل سريع كما عالج حافظ الأسد انتفاضة الاخوان المسلمين في حماة سنة 1982.
المادة 3 والبروتوكل 2 وطالما أن الحروب الأهلية تتصف بالضراوة والعنف وطالما أنها تشمل مناطق آهلة بالسكان، فكثيراً ما تشكل فرصة لتدخل الدول الكبرى أو المجاورة في الأحداث مما يزيد من تفاقم الوضع وإراقة الدماء. لذلك جاءت المواثيق الدولية لحماية الضحايا المحتملين لهذه النزاعات التي عادة ما تزيد وحشية عن النزاعات بين دولتين. وها هي المادة 3 من اتفاقية جنيف (1949) والبروتوكول الثاني (1977) اللذان يشكلان النصين الأساسيين اللذين تقوم عليهما حماية ضحايا النزاعات الداخلية، وصارا يعتبران من المفاهيم البديهية للإنسانية elementary considerations of humanity. يطبق هذان النصان بشكل فوري وتلقائي في حال تأكد حصول ما يدعى "نزاعاً مسلحاً ليس له طابع دولي". فلا داعي بالتالي لإصدار قرار من قبل هيئة دولية أو مجلس أمن ولا داعي لتوصية من منظمة حقوقية أو انسانية. وهذه المواد القانونية وضعت لحماية الأشخاص الذين لا يشتركون مباشرة في الأعمال العدائية من مدنيين وغير مدنيين، بمن فيهم أفراد القوات المسلحة الذين ألقوا السلاح، والأشخاص العاجزون عن القتال إلخ... ولهذا الغرض، تحظر الأفعال التالية في ما يتعلق بالأشخاص المذكورين أعلاه، وتبقى محظورة في جميع الأوقات والأماكن: أ) الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، ب) أخذ الرهائن، ج) الاعتداء على الكرامة الشخصية، د) إصدار الأحكام وتنفيذ العقوبات دون إجراء محاكمة سابقة أمام محكمة مشكلة تشكيلاً قانونياً.
في المسؤولية الجنائية ثمة مسؤولية جزائية فردية تترتب على كل من يرتكب جرائم ضد الإنسانية وكل من يخرق قوانين الحرب وأعرافها عند قيام نزاع أهلي. لكن للأسف لا اتفاقية جنيف ولا البروتوكول الثاني وضعا آلية للنيل من مرتكبي الجرائم. فكيف يلاحق من يخرق القواعد؟ وأمام أي سلطة؟ هناك حالتان: إما استحداث محكمة خاصة ad hoc على غرار محكمة رواندا ومحكمة يوغوسلافيا السابقة، وإما أن تتحرك المحكمة الجنائية الدولية كما حصل في القضية الليبية أخيراً لملاحقة القذافي وزبانيته.
وللتذكير علينا الرجوع إلى قرار صادر في 1997 عن المحكمة التي نظرت في قضية يوغوسلافيا والمعروف باجتهاد Tadic الذي ينص على الآتي: "يطبق القانون الدولي الإنساني في نزاعات كهذه ويستمر مفعوله إلى ما بعد التوقف عن الاقتتال وحتى قيام السلم النهائي... هذا القانون الدولي الإنساني يطبق على كل الأقاليم التي هي تحت سيطرة فريق من المتحاربين، أكان يدور اقتتال في الأقاليم هذه أم لا".
الشرط الوحيد غير المتوافر لقيام النزاع الدقيق التوصيف، هو تأمين اقليم يحكمه الثوار! وما مشروع إقامة منطقة محظورة من السلاح على الحدود التركية سوى مقدمة لاقامة حكم ذاتي انفصالي على بقعة جغرافية ما. وكم من منطقة عرضها خمسة كيلومترات توسعت إلى ضم مناطق شاسعة وعواصم نابضة. فما مصير مدينة حلب في مرحلة لاحقة وهي على التخوم المستجدة للصراع المقبل؟ أفلا تكون المنطقة العازلة المنشودة (ضمن خمسة كيلومترات أو ثلاثين مع حظر الطلعات الجوية) خطوة على طريق إرساء صفة الشرعية على المتمردين؟ ألا يكون ذلك تدبيراً مرحلياً للإعتراف بالمحاربين من قبل الأطراف الدولية.
أوَ ليس من اللافت كلام وزيرة الخارجية الأميركية عندما صرحت ان "نظام الاسد" هو الذي دفع الشعب الى "حمل السلاح ضده"، وذلك من خلال العنف الذي يمارسه منذ أشهر. وأخيراً أليست من ضروب المفارقة أن تكون السلطات السورية هي بالذات قد عبدت الطريق لحرب أهلية باعتمادها القمع اللامتناهي؟ أما هذه الحرب فستنقلب على أسياد النظام وبالاً إذا ما تحققت شروطها الخمسة!
(محام وأستاذ جامعي)
|