التاريخ: تشرين الثاني ٣٠, ٢٠١١
المصدر: جريدة الحياة
في نقد نقد الطائفية اللبنانية - سامر فرنجية

من أعرق التقاليد في السياسة اللبنانية نقد الطائفية ونبذها بوصفها العلّة الأساسية في البلاد. فقد ترافق تأسيس النظام الطائفي في القرن التاسع عشر مع تطور نقده القائم على اعتبار الطائفية والانتماء الطائفي بلاء الوطن ومرحلة لا بد من تجاوزها.


وشكّل نقد الطائفية المكون الثابت ضمن التحولات الأيديولوجية التي عصفت بالمنطقة، متكيفاً مع معظم تلاوين الأيديولوجيات الحديثة أو المستحدثة. فقد شكّلت الطائفية الحاجز أمام الوحدة العربية في نظر القوميين، وأيديولوجية النظام الرأسمالي الطرفي للماركسيين، وحليفة الفساد لليبراليين، وربيبة بقايا التقاليد للتحديثيين. وكانت آخر محطة في هذا المسلسل محاولات «إسقاط النظام الطائفي»، التي اختزلت الثورات العربية لبنانياً بشعار نبذ الطائفية.


تشكّل الطائفية، وفق كل هذه النظريات، ضرباً من الأيديولوجيا، تمنع الفرد اللبناني من رؤية مصالحه ومصالح وطنه في آن واحد. فالفرد اللبناني، سجين نظرته الطائفية الضيقة، وفق هذا النقد، يتصرف عكس مصالحه «الموضوعية» ومصالح مجتمعه. من هنا، يصبح التحرر من الطائفية تحرراً كلّياً، يحرر الفرد والمجتمع سوياً.


أصبح نقد هذه الظاهرة العمود الفقري لكل برامج الإصلاح، والركن الأنثروبولوجي للإصلاحات السياسية والاقتصادية. فيُفسّر أي خللٍ في النظام اللبناني من خلال ارتباطه بالبنية الطائفية، التي تشكّل أيضاً الجواب لمعضلة ضعف البدائل غير الطائفية. فكيفما بدأنا في التفكير بإصلاح النظام، ننتهي دائماً في مكان واحد وفي مواجهة تحدٍ واحد: الطائفية وكيفية إلغائها.


لكن على رغم ثورويتها وموقفها الحاسم من النظام، تشكّل هذه المقولة أسطورة من الأساطير المؤسسة للسياسة في لبنان. فتتفق عليها الأكثرية الساحقة للقوى السياسية، مهما كان موقعها السياسي، متواطئةً على وضعها النظام اللبناني في غرفة انتظار دائمة، ريثما يستطيع التخلص من مرضه. فالوظيفة السياسية للنقد هي التأكيد أن المنقود يعزل السياسة ويحد من امكانية تعميق الديموقراطية. بهذا المعنى، يمكن اعتبار أن الأيديولوجية الرسمية للنظام الطائفي، ليست الطائفية فحسب، بل الطائفية ونقدها في آن واحد.


وظيفة نقد الطائفية، إذاً، عزل السياسة في لبنان وتأجيلها. فيؤدلج هذا النقد الإحساس باصطناعية النظام والطابع الموقت لمؤسساته، مؤكداً استحالة السياسة في لبنان، ريثما تزول عنه كمخة الطائفية. هكذا يخسر الواقع أي دور في صوغ السياسة ليصبح مجرد هدف لإصلاحاتها، مذكراً بالمنظومات التوتاليتارية وعلاقتها المتعالية بالواقع. هكذا يفقد الواقع أي مشروعية سياسية، ليصبح مجرد مواد خام لتدخّلات «تصحيحية»، تنقذه من نفسه. فالمجتمع اللبناني، وفق هذا النقد، موقت، إما أن يقضي على نفسه من خلال حرب جديدة، أو أن يزول من خلال التحول إلى مجتمع جديد، وفي الحالين، لا دور لحاضره.


يعطي التعالي على الحاضر صبغة راديكالية لهذا النقد. فنقد الطائفية من بين أواخر المشاريع الثوروية، بعد اضمحلال معظمها في أواخر القرن الماضي، يلخص السياسة لعملية تحويل راديكالية للمجتمع والفرد في آن واحد. وفي هذه المنظومة الثوروية، لا مكان للإصلاح التدريجي أو النقد الأخلاقي. فموقع الناقد للطائفية في مجتمع طائفي كلبنان شبيه بموقف أعضاء جماعة التكفير والهجرة، رافضين للمجتمع برمّته، وباحثين عن مكان آمن من إغراءاته. ويحجب هذا الموقع أي مساءلة لممارسات النظام، المرفوضة بالجملة، أو أي تعديل في النظام لا يقوم على إلغائه. هكذا يفقد النقد الأخلاقي فعاليته، ليصبح مجرد رفض، لا محل له ضمن مجتمع ملوث بوباء الطائفية.


هذا التعالي على الواقع شكّل أحد المداخل لتحالف البعض مع العسكر والمخابرات، محبَطين من عجز المجتمع الطائفي عن أن ينتج إصلاحيين أو أن يُخرق من خلال اللعبة الديموقراطية. فإذا كان الفكر الطائفي معادياً للديموقراطية لعدم اعترافه بالفرد المواطن، فإن منظومة نقد الطائفية، وهي من بقايا الفكر الثوري في عهد البؤس، تعادي الديموقراطية من باب إصلاح المجتمع، وهي معادلة شكّلت تاريخياً الممر الأقصر لتجارب قمعية، مع اعتبارها الديموقراطية مضيعة للوقت في ظل مجتمع قاصر.


غني عن القول إن صعود الدولة القمعية في العالم العربي في النصف الثاني من القرن الفائت، غالباً ما بُرر بأعذار شبيهة، رأت في النظام الديموقراطي غطاءً لقوى رجعية أو أداة عاجزة للإصلاح. وقد فشل هذا النموذج في لبنان تبعاً لضعف المؤسسة العسكرية، وإن بقي رغبة دفينة لدى البعض، يتجدد بأشكال مختلفة كل فترة.


والراديكالية غالباً تبسيطية. ففي وجه تعقيدات النظام السياسي وتفشي الفساد في الإدارات العامة وفقدان السيادة الوطنية وغياب رواية تاريخية موحّدة، يُعرض شعار إلغاء الطائفية كحل سحري لكل مشاكل البلد.


وتقوم بساطة هذا الحل، التي تشكّل سر شعبيته، على تجاهل الدراسات الحديثة عن تاريخ العلمنة، مستبدلة إياها برواية تبسيطية عن صعودها في الغرب. ويكمن الشرط الثاني لتلك البساطة في تجاهل عملية إلغاء الطائفية، واستبدالها بهيجان أخلاقوي عن مآسيها، يؤمل منه أن يغض النظر عن علاقة عملية الإلغاء هذه بالديموقراطية.


لا يعني نقد نقد الطائفية تبني الظاهرة المنقودة. فلا وجود للطائفية، بوصفها بنية تحتية للنظام اللبناني، إلا عند نقادها. لكن ما يوجد، في المقابل، أشكال تاريخية وخطابات سياسية وأنظمة قانونية تعترف بهذا الحيز من الانتماء الانساني، وإن كانت تختلف في باقي الأمور. فنقد الطائفية، كبنيان موحد وثابت، يمنع التمييز بين «طائفية» رئيس الهيئة التنفيذية في «القوات اللبنانية» سمير جعجع المنفتحة على الثورات العربية و «طائفية» النائب ميشال عون المبررة للقتل الذي يمارسه النظام البعثي.


كما لا يسمح هذا النقد بالتقاط تطور الكنيسة المارونية «الطائفية» نحو مبدأ الدولة المدنية في عهد البطريرك السابق وانزلاقها نحو «طائفية» رثّة في عهد بطريركها الممانع الحالي. كما لا يستطيع هذا الأسلوب في التحليل التمييز بين نظام انتخابي «طائفي» كالذي أرساه اتفاق الطائف والخروج «الطائفي» عنه الذي يقترحه اللقاء الأرثوذكسي.


هذا ليس مجرد مطلب لتحويل نقد الطائفية من نقد نوعي إلى نقد كمي، لكنه محاولة لإعادة موضعة النقد. فالطائفية، لسوء الحظ، بداية السياسة في لبنان. وربّما كان من الأفضل التعاطي معها بدل الخروج من السياسة باسم إلغائها.


* كاتب لبناني