عادة لا يعرف جمهور البسطاء في أي مكان (وبعض النخبة أحيانا) حقيقة أن الانتخابات، ولو كانت نزيهة وغير مزورة، ليست هي كل الديموقراطية، وأن هذه نفسها ليست "الحرية" بالضبط، وإنما كلتاهما (الانتخابات والديموقراطية) مجرد أدوات وآليات اخترعها البشر لتنظيم ممارسة حرياتهم عندما ينتظمون في مجتمعات تتفاوت بل تتناقض فيها المصالح والعقائد والأفكار والتوجهات إلخ. والمصريون وسائر شعوبنا العربية ليسوا استثناء ولا هم محصنون (بالعكس) ضد بساطة الوعي الذي يخلط بين الانتخابات والديموقراطية والحرية ويعتبرها كلها شيئاً واحداً بمسميات مختلفة، لهذا ستجد كثيرين يحدثونك بفخر وحماسة شديدين عن المشهد النادر الذي صنعه المقترعون المصريون أمس وأول من أمس بعدما ذهبوا وتدفقوا على مكاتب الاقتراع في المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية الأولى تجرى في البلاد بعد "ثورة 25 يناير" بكثافة هائلة كسرت سقف توقعات أكثر المتفائلين بل تجاوزت أجمل أحلامهم.
وبالطبع فإن الحماسة والشعور بالفخر لهذا المشهد أمر مفهوم ومبرر ويستند إلى أسباب حقيقية أهمها أنه مشهد يدل بقوة وبلاغة على حرارة وتأجج الرغبة في طي صفحة ماض كئيب وطويل مثقل بالاستبداد والقهر والتهميش، ويشير كذلك إلى مقدار شوق أهل مصر الى الحرية وتطلعهم الى بناء نظام ديموقراطي يمكنهم من دخول معادلة الحكم التي ظلوا بمنأى عنها عددا من الحقب والسنين يستعصي على العد.
غير أن هذه الديموقراطية المأمولة تحتاج كي تُبنىَ فعلا إلى ما هو أكبر وأكثر كثيرا جدا من مجرد عملية إقتراع ناجحة ومدهشة تمت في ظل إجراءات شفافة لم يعرفها ولم ير المصريون المحدثون بكل أجيالهم مثيلا لها، كما أن الانتخابات نفسها التي جرى الاقتراع لها أتت في سياق "مسار انتقالي" بدا مرتبكا وفوضويا ومعاكسا للمنطق أدى بدوره إلى تخليق بيئة سياسية تشي بمشكلات واحتقانات لا أول لها ولا آخر ظلت تلتهب وتتصاعد مدى الأشهر التسعة الأخيرة حتى بلغت – قبل أيام قليلة من بدء الاقتراع – ذروة خطرة جسدت نفسها في أزمة ثقة تلونت بالدم فصارت عميقة ومستحكمة ولا يمكن حلها بين "شباب الثورة" من جهة والمجلس العسكري الذي ورث حكم البلاد من الرئيس المخلوع حسني مبارك وتولى وحده إدارة وتحديد مسار المرحلة الثورية الانتقالية فإذا به يفعل كل ما اعتبره "مفجرو الثورة" يكرس البقاء في الماضي ويعطل الانتقال ويعرقل الانطلاق نحو مستقبل منشود رسم الشباب ملامحه بهتافاتهم المدوية في ميدان التحرير قبل اسقاط مبارك وبعده. ومن هذه المعطلات والعراقيل، وضع العربة أمام الحصان والبدء بانتخابات برلمانية قبل التوافق على دستور يحدد هوية الدولة وشكل النظام السياسي الجديد!
|