التاريخ: تشرين الثاني ٢٧, ٢٠١١
المصدر: جريدة الحياة
الثورة السورية تنظر في نفسها - ياسين الحاج صالح

غطى السوريون ثورتهم بينما هم يقومون بها. وقد لا يكون هناك حدث في تاريخ العالم كله قبل الثورة السورية اعتمد في تغطيته حصرياً وبالكامل على المنخرطين المباشرين فيه، على خطورة ذلك على المعنيين. الثائر الجمعي السوري هو ذاته الإعلامي الجمعي. وأدرك منذ البداية أن حياة الثورة في تغطيتها ونشر أخبارها، فبهذا وحده تمسي حدثاً عربياً وعالمياً، بل بهذا وحده تمسي حدثاً سورياً عاماً. وعلى رغم أن المصورين والإعلاميين المختصين نادرون في أوساط الثائرين، أظهر هؤلاء أنهم أبناء عصر المعلومات والإعلام والإعلان، وقانون هذا أن ما لا ينشر أو يعمم لا يوجد. وبعرض ثورتهم أبطلوا نهجاً عريقاً للنظام في حجب المعلومات واحتكار نظام هو من الأكثر سرية في العالم في تقديم المعلومات عن البلد. قبل حين، نسب حسام العريان، وهو مشارك في أحد الوفود التي التقاها الرئيس السوري في شهور الثورة الأولى، إلى الأخير أنه مستاء ممن يصورون التظاهرات ويوصلون الصور إلى الفضائيات أكثر من فعل التظاهر نفسه. ومعلوم كم تثير غيظ النظام تغطية الفضائيات العربية الأحظى بالمتابعة للحدث السوري، حتى يكاد الرد على هذه القنوات أن يكون الشاغل الأول في القنوات السورية، علماً أن الفضائيات العربية تعتمد في صورة حصرية على ما يصوره الثائرون السوريون.


ولكن إذا كان صحيحاً أنه «لم يسبق لمجرم أن اصطحب شهوداً إلى مكان جريمته»، على ما قال تقرير للجان التنسيق المحلية صدر قبل حين (وسنتوسع في الكلام عنه فوراً)، فستكون تغطية الضحايا لممارسات المجرم ضرباً من الحماية الذاتية لا ينتظر الشرعية من أحد، ليس من المجرم بخاصة، وسيكون إنكارها عليهم إمعاناً صفيقاً في الجريمة: أقتلكم، وتخرسون!


في حصيلة التغطية الذاتية للثورة السورية توافرت مادة مصورة هائلة، صارت تطرح مشكلة خاصة بها. نعم، لم نعد في الظلام، لكننا في شهر الثورة التاسع مغمورون بطوفان من الصور والأخبار والمعلومات، يهدد بأن ننجرف في تياره أو نغرق فيه. هناك وقائع تُنسى، ووقائع تختلط بغيرها، ووقائع تحل محلها تقديرات أو تفضيلات ذاتية، وتتجزأ صورة الثورة في الأذهان، فلا تكاد أن تكون لها وجهة أو شخصية عامة محددة.


تلح الحاجة اليوم إلى تغطية ثانية لتغطيتنا الأولى للثورة، إدخال مقدار من النظام والترتيب في هذا الواقع الجديد الذي أوجده الإعلامي الجمعي السوري الثائر. ليس فقط بهدف إحاطة أفضل بمسار الثورة وعملياتها، وإنما أيضاً من أجل إتاحة مفهومها وصورتها للعموم. هذا يتعذر إن بقيت تغطية أولى، وفيرة، ولكن لا شكل لها.


تستجيب جانباً من هذه الحاجة سلسلة تقارير صدرت منذ منتصف تشرين الأول (أكتوبر) الماضي عن «لجان التنسيق المحلية»، ترصد «بعض أبرز الانتهاكات التي ارتكبها النظام السوري». يغطي أول التقارير الفترة بين 15 آذار (مارس) و15 تشرين الأول، تلاه تحديثان نصف شهريين له، وتقرير مستقل عن شهداء الثورة من الأطفال، بعنوان: الأطفال... ضحايا النظام السوري. والتقارير مزودة بكثافة بالصور والروابط لصفحات تتضمن معلومات أو فيديوات (متاحة كلها بالعربية والانكليزية على هذا الرابط http://www.lccsyria.org/ar).


تعتمد التقارير تنظيماً بسيطاً لمعلوماتها: توزع الانتهاكات على المدن والشهور، وتورد الوقائع بالتفاصيل المتاحة عنها، وتذكر من قتلوا تحت التعذيب بالأسماء وتواريخ الاعتقال والجهة الأمنية التي اعتقلتهم (قصب السبق في القتل لجهاز «الأمن الجوي»، لكن كل الأجهزة مشاركة)، وتستند إلى قائمة اسمية موثوقة بأسماء جميع الشهداء (متاحة هنا http://vdc-sy.org/) .


يتضمن التقرير الأول شهادات من منظمات حقوقية محلية أو دولية أو شهود مباشرين. مثلاً طبيب يتحدث عن تعذيب جنسي يتعرض له المعتقلون من بانياس بإدخال عصا في الشرج، أو إجبار المعتقلين على أن يقولوا إن بشار ربهم. ويذكر التقرير أنه في 16 تموز (يوليو) الماضي أُغلِق مستشفى الحكمة في قطنا قرب دمشق بالشمع الأحمر لمدة شهرين بحجة «علاجه الجرحى من دون إذن». كذلك يستعيد التقرير وقائع معلومة، لكنه يضعها في زمانها ومكانها ويوفر معلومات إضافية عنها أحياناً، مثل واقعة قتل الدكتور صخر حلاق تحت التعذيب في حلب في أواخر أيار (مايو)، مع كسر أضلاعه وقلع عينيه وتشويه إحليله وخنقه، ثم منع عائلته من تصوير الجثة، ونقله إلى القبر بسيارة المخابرات ودفنه بإشرافها.


وبمحصلة التقرير نعلم أن عدد الشهداء حتى منتصف تشرين الأول هو 3356، بينهم 660 عسكرياً، لا يوضح التقرير للأسف كيف قتلوا، أو يقدر نسبة من قتلوا لرفضهم قتل المتظاهرين ومن يحتمل أنهم قتلوا بأيدي محسوبين على الثورة. وبين 16 و31 من الشهر ذاته سقط 384 شهيداً، وفي نصف الشهر اللاحق سقط 401 شهيد. والمجموع تالياً هو 4141 (4490، حتى الأربعاء، 23/11). وبين من سقطوا حتى منتصف هذا الشهر هناك 197 قتلوا تحت التعذيب، و101 امرأة بالغة. ويفيد التقرير الخاص بالأطفال بأن 280 طفلاً سقطوا خلال 8 أشهر من الثورة، بينهم 51 طفلة، و229 طفلاً. وهناك دوماً قوائم بالأسماء، مع أماكن وتواريخ سقوط الشهداء.


وبنظرة مجملة تبدو معلومات الناشطين السوريين أوثق مما تتيحه الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان الدولية، وهامش الخطأ فيها أصغر (وهو خطأ بالإغفال وليس بالزيادة، وفق السيدة رزان زيتونة، المحررة الرئيسية لتقارير لجان التنسيق المحلية). وهي تضع بين أيدي المهتمين زاداً معلوماتياً موثوقاً، يمكن الاستفادة منه لمراجعة جانب مهم من مسارات الثورة السورية.
لكن تنظيم وعينا بالثورة يحتاج إلى ما هو أكثر بكثير من رصد الجانب الإنساني والحقوقي.


سيكون مهماً وصف الثورة، النشاطات والمبادرات المبتكرة التي قام بها جمهور الثورة في بؤرها الكثيرة. الثورة ليست تظاهرات فقط، ولا انشقاقات للجيش فقط. هناك مبادرات ميدانية متنوعة عظيمة الأهمية: منشورات، كتابات على الجدران، تلوين البحيرات بلون الدم، أعمال إغاثة، صحف شبابية، تنسيق نشاطات، اتصالات، نشاط على الانترنت... فضلاً عن التظاهرات ذاتها، واللافتات والهتافات و «العراضات» والأغاني. سيكون مفيداً نشر تقرير موسع عن هذه النشاطات منذ بداية الثورة، وتعميمه.


تلزم بالمقدار ذاته تغطية التطور السياسي للثورة منذ انطلاقها، على نحو ما تعبر عنه شعاراتها وهتافاتها وأسماء أيامها، والصيغ التنظيمية التي ولدت في نطاقها (التنسيقيات المتنوعة) والمجموعات الشبابية، ونشاطات المعارضة التقليدية ونوعية مشاركتها في الثورة وصيغ تفاعلها معها.
سيتحقق للثورة السورية تقدم أكبر في وعي الذات، ونقد الذات، إذا أمكن تحقيق هذه المراجعات. هذا أيضاً من الثورة.