لا شكّ في أنّ الثورات العربيّة مكلفة دماً واقتصاداً، ولو تفاوتت أكلافها بين بلد عربيّ وآخر. ولا شكّ أيضاً في أنّ آفاقها غامضة، وأنّها قد تفاجئنا بخياراتها، وقد تأتي مفاجآتها أكبر من قدرتنا على التفاجؤ. لكنّ ما لا شكّ فيه أيضاً أنّها تجعلنا أشبه بالبشر الآخرين على سطح هذه المعمورة ممّا كنّا قبلاً. فاليوم لا تبدو البلدان التي انتفضت مُلك أحد تتسمّى به ويضعها في ثلاّجة أو يقفل عليها في صندوق. كما أنّها تلوح عصيّة على الاختصار في شعار أو في قضيّة، باسمها تُصادَر الحياة الوطنيّة ويُرسم خائناً من يعترض عليها أو يشكّك فيها.
في تونس بدأنا نشبه العالم في أنّ أحزاباً فازت في الانتخابات وأحزاباً رسبت، فيما الأحزاب التي فازت تخوض معارك سياسيّة لتنظيم صورة الحكم المقبل، لا سيّما منها العلاقات في ما بينها. هكذا يتعرّض التونسيّون لشمس التحالفات والمناورات والنقاش المفتوح بعد طول عيش في العتم والصقيع.
وفي مصر بدأنا نشبه العالم حيث يُراد للثورة، بهمّة شبّانها، أن تُستكمل حتّى النهاية وأن تفضي إلى ولادة ديموقراطيّة. هكذا تصطفّ مصر، مثلاً لا حصراً، جنباً إلى جنب بلدان أوروبيّة سقطت فيها الشيوعيّة ولا تزال الديموقراطيّة تكافح كي ترى النور.
وفي البلدان المنتفضة الأخرى، بتنا نشبه العالم في الطلب على الحرّيّة، وفي الاستعداد للذهاب بعيداً في تقديم التضحيات من أجل الهدف المتواضع والأوّليّ هذا. أشياء كثيرة بشعة سوف نلقاها على هذه الطريق: أفكار وممارسات متخلّفة، بعضها قاتل بالمعنى الماديّ للكلمة. ذاك أنّ الشرور ليست حكراً على الأنظمة الشرّيرة، كما يقول الوعي النضاليّ في ثنائيّاته وإطلاقيّاته. بل إنّ بلداناً قد تعلن عجزها عن الاستمرار بلداناً موحّدة، وقد تكتشف أنّ وحدتها كانت اصطناعاً قسريّاً.
لكنّ من شبه المؤكّد أنّ حرّاس العزلة عن العالم، باسم قضايا «مقدّسة» وعداوات جوهريّة لا تحول ولا تزول، فقدوا قدرتهم على الحراسة. فلنتخيّل، في سوريّة ولبنان مثلاً، كيف عُلّقنا وأُجّلنا لأنّنا لا نستطيع تحرير الأرض بالحرب كما لا نستطيع تحريرها بالسلم، وكيف انتهينا أمام مقاومة هي من جوهر الأشياء، لا نعرف تماماً متى تنتصر وما هو الحدث الذي يعلن انتصارها، ومن ثمّ انحلالها. هذا التأجيل يغدو اليوم أصعب فأصعب لأنّ العالم بات يصل إلينا بطرق شتّى، وصار يستنطق فينا الرغبة كي نشبهه وكي نترجم ذاك الشبه أشكالاً ومضامين.
بالطبع هناك احتمال الخداع في الشبه هذا، سيّما وأنّ صورة الواحد عن الآخر، الذي يريد أن يشبهه، قد لا تطابق صورته الفعليّة. وعن هذا التفاوت قد تنشأ طرق التفافيّة طويلة ومعقّدة، وقد تعمل الأوهام التي يتشارك في بعضها الجميع حكّاماً ومحكومين على تعظيم الأكلاف. غير أنّ هذه المجتمعات، بخيرها وشرّها، بإدراكاتها وأوهامها، قرّرت، للمرّة الأولى، أن تكون مسؤولة عن نفسها. فمن الذي يستطيع أن يوقف ذلك أو أن يقف في وجهه؟
|