فعلاً، الظروف التاريخية المحددة، يمكن أن تطلق افضل أو أسوأ ما في الفرد نفسه مروراً بالجماعات والحركات والاحزاب وصولاً الى مجتمعات بأكملها. ينتابك هذا التفكير وأنت تقرأ البرنامج الإنتخابي لحركة النهضة التونسية، التي فازت مؤخراً بإنتخابات المجلس الوطني التأسيسي. وتحتار، في ظل تصورك التقليدي للحركات الإسلامية، هل أنت حقاً أمام خطاب سياسي إسلامي يسعى الى تسخير الدين لمصلحة أجندته الخاصة، أم أنك امام حزب سياسي علماني محافظ يأخذ بعين الإعتبار مشاعر البيئة المتدينة، ويسعى الى التوفيق بين التحول الديموقراطي وبناء الدولة المدنية من جهة وخصوصيات الهوية الإسلامية للمجتمع من جهة أخرى. فبرنامج حركة النهضة الشامل، والذي يتكون من 365 بنداً تغطي كافة نواحي الحياة، يتركز حول التحول الديموقراطي وبناء الدولة المدنية الحديثة والمجتمع المعاصر وتحقيق التنمية الإقتصادية والإجتماعية) لينك البرنامج (http://www.365p.info/livre/index.html وفي هذا السياق يؤكد البرنامج على مكتسبات المرأة المحققة في الزمن السابق ويطرح العديد من المهام لتعزيزها، علماً ان الفصل الذي يتحدث عن هذا الموضوع يعرض بورترية (صورة) لإمرأة "سافرة"، أي غير محجبة، بما تبثه هذه الإشارة من معاني ورسائل.
إنه "الربيع العربي" الذي يفرض بجماهيره وشعاراتها التي تصدح بالحرية والكرامة والوحدة الوطنية، وتعلن إنفتاحها على الآخر وبالاخص الغرب نفسه، جدول أعمال المجتمعات العربية وقواها السياسية من اليسار الى اليمين ومن العلمانية الى الإسلام السياسي، بمعنى ان تكون اللحظة إسلامية أو علمانية، يسارية أو يمينية، فلا بد، لكي تقوم أساساً ولكي تستمر وتلقى الاحتضان الجماهيري، أي أو كسجين الحياة في زمن الحرية المخصبة بالدماء والتضحيات، ان تعكس متطلبات المرحلة المحددة التي نعيشها حالياً.
إسقاط الطغيان، إقامة الديموقراطية وبناء الدولة المدنية الحديثة هي أمر اليوم التاريخي الذي تفرضه الجماهير الثائرة، وهذا ما ترجمته حركة النهضة الإسلامية وكان بذلك فوزها التاريخي المؤسس لزمن صناديق الإقتراع في لحظته الربيعية. لكن، مهلاً، يصرخ بعض العلمانيين، هذه بضاعتنا.. ما الذي يحصل هنا!!؟
إنه الربيع العربي.. إنه زمن نوعي جديد يختلف بالكامل عن عصر الانحطاط ومداركه وحساباته، فما كان يصح بالامس لا يصلح لليوم، والعكس صحيح. يقول البعض: مستحيل هذه حفلة/ مؤامرة تنكرية يموه فيها الإسلام السياسي عن أفكاره وسياساته واهدافه الحقيقية... حسناً، لا يوجد مشكلة، فنحن في مطلق الاحوال امام شرعنة وتثبيت لمعطيات اساسية في جدول أعمال تقدمنا نحو العالم المعاصر، فإذا كانت الحركات الإسلامية المعنية صادقة فخير على خير، وإذا كانت تتحايل وتتنكر فهي تحرق نفسها وثقة الجماهير بها قبل أي شيء آخر، وقطار التغيير لن يتوقف بل سيتخذ طابعاً مختلفاً، أكثر مباشرة، أي أكثر علمانية، وبالتالي أكثر وضوحاً وتكون عندها الجماهير والمجتمعات في ظرف أنضج لتقبل ودعم المسار البديل، الاكثر تقدماً، لتحقيق أمانيها المشروعة.
الموضوع برمته يقودنا نحو عنوان هذه المقالة وهو جدلية الإسلامي والعلماني في التحول الديموقراطي وبناء الدولة المدنية. القضية الأساسية هنا تتمثل، من منظار هذه الجدلية، في كون مضمون العملية الانتقالية التي تعيشها مجتمعاتنا العربية اليوم يقوم، ولا يمكن إلا ان يقوم، على أساس علماني، أي بفصل الدين عن الدولة، أي عن السياسة. فهذا الفصل هو الطريق الوحيد الذي انتجته البشرية في مسا ر تطورها لتحقيق المساواة الفعلية بين كافة المواطنين، أي الاساس المادي لإقامة الديموقراطية الحقيقية وبناء الدولة المدنية، دولة المواطنين الافراد الاحرار المتساوين تماماً وذلك بعيداً عن انتماءاتهم الدينية والعقائدية والاثنية وغيرها.
طبعاً، العلمانية لا تعني إطلاقاً معاداة الدين وإنما فصل الدين عن الدولة، أي عن السياسة، وبهذه الطريقة يتم تحقيق المساواة بين المواطنين من جهة وإطلاق حرية الدين من جهة أخرى، وذلك بعيداً عن تغول الدولة والاعتبارات السلطوية. وهذا الامر يعيد اصلاً للدين إعتباره كمسألة روحية فردية وخاصة بين الإنسان ومعتقداته الوجودية. وفي هذا المجال تشكل تجربة الدول المتقدمة العلمانية نموذجاً رائداً للحريات الدينية ليس فقط لمواطنيها، وإنما للبشرية جمعاء وبالاخص لأجيال من المسلمين أنفسهم الذي هربوا من الاضطهاد في بلدانهم الام.
بهذا المعنى فالمواطن يمكن أن يكون مسلماً وعلمانياً أو مسيحياً وعلمانياً أو يهودياً وعلمانياً أو بوذياً وعلمانياً أو ملحداً وعلمانياً، فلا تناقض بين الإنتماء الديني من عدمه مع الإنتماء الى العلمانية. طبعاً، الموضوع يختلف حين يستخدم الدين في السياسة، إن كان على صعيد الافراد أو الجماعات أو الدول.
لا شك ان التعاليم والمشاعر والقيم الدينية وغير الدينية تلعب دوراً مهماً في تشكيل وعي الافراد والجماعات في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية، الامر الذي يساهم في تشكيل آرائهم ومواقفهم وسلوكياتهم السياسية، وهذا أمر طبيعي ولا يتعارض مع العلمانية. التناقض يحصل عندما يتم إقحام الدين ونصوصه المقدسة في السياسة، وفي تحديد الذين يجب والذي لا يجب... هنا بيت القصيد فيما يتعلق بالربيع العربي ولحظته الإسلامية الراهنة ومضمونه العلماني.
شباب علماني، متدين وغير متدين، أطلق المبادرة التاريخية بإشعال الاحتجاجات التي فجرت ربيع الشعوب العربية وفرض من خلال ريادته في إطلاق عملية التغيير جدول أعمال تقدمي للمرحلة الجديدة عنوانها بناء الدولة المدنية الحديثة وعمادها النظام الديموقراطي بمضمونهما العلماني الواضح.
إن دخول الحركات الإسلامية على الخط من خلال الثقة السياسية التي أولتها إياها الجماهير وبروز ما يمكن تسميته بـ "اللحظة" الإسلامية في الربيع العربي، هو دخول يخضع موضوعياً لطبيعة المرحلة التقدمية بمضمونها العلماني. بالتالي، فنحن هنا امام حالة نوعية، جديدة وفريدة: إسلام سياسي عربي، ملتبس بتاريخه، يتقدم لقيادة أجندة تقدمية تاريخية بمضمون علماني لا لبس فيه. هل هناك تناقض في هذه المعادلة!!؟... نعم بلا أدنى شك (والتناقضات كما يقول الفلاسفة هي مصدر التطور)، فاستخدام الدين في السياسة، أي ما يميز الحركات الإسلامية عن غيرها من القوى السياسية، يتناقض مع جوهر العلمانية، وهذه معضلة رئيسية يواجهها الإسلام السياسي المنخرط في الربيع العربي وعليه ان يحسم أمره في هذا المجال، فلا يمكن تحقيق الديموقراطية الفعلية والدولة المدنية الحديثة من دون أساس علماني واضح.
لا شك ان الإسلام بتعاليمه وأخلاقه وقيمه الإنسانية وبالاخص تلك التي تدعو الى التسامح والعدالة والاخلاق الحميدة والإنفتاح على الآخر والتكافل الاجتماعي وغيرها ستكون من العناصر المهمة في تكوين خياراتنا وطريقنا المحدد للانضمام الى عالم العصر. وفي هذا السياق فان الحاجة العملية المباشرة ستفرض على المعنيين، وبالاخص مفكري وقادة الحركات الإسلامية، ان ينظروا من جديد الى تاريخنا ويعيدوا الإعتبار الى الجوانب العقلانية المضيئة في تراثنا، وهي كثيرة ومهمة، ولكن، وهذا في منتهى الأهمية، عليهم الانطلاق من منظار اليوم الراهن وتحدياته وبشكل يساعد فعلياً على تقدمنا الى الامام.
ان التجربة الفذة لحزب العدالة والتنمية التركي تبين بما لا يدع مجالا للشك الى ان هناك إمكانية واقعية لكي تتولى حركة سياسية بخلفية اسلامية قيادة دولة ديموقراطية علمانية. طبعا، ما يميز واقعنا العربي اليوم يتمثل بالدعوة التاريخية التي توجهها شعوبنا الى فصائل من الاسلام السياسي لكي تبادر الى قيادة اللحظة التأسيسية لبناء الدولة الديموقراطية العلمانية، وهذا الامر هو تحدي هائل امام الحركات الإسلامية المعنية، فالمطلوب منها في آن واحد العمل على تغيير نفسها وتغيير مجتمعاتها بشكل ثوري لم يسبق له مثيل.
العالم يتغير، وجميعنا نتغير معه، بأشكال وإتجاهات ووتائر مختلفة، والحركات الإسلامية ليست خارج منطق الحياة ودروسها وضروراتها، وفي هذا السياق تبين صيرورة حركة النهضة الإسلامية، بتطور خطابها السياسي وعقلانية برنامجها الانتخابي وواقعية سلوكها العملي، ان هناك إمكانية حقيقية لمزيد من التغيير النوعي في البنية الفكرية - السياسية لهذه الحركة - أي النهضة - باتجاه المزيد من التكيف مع المتطلبات العلمانية لتحقيق الديموقراطية وبناء الدولة المدنية.
ان عملية تكيف حركة النهضة وغيرها من القوى الإسلامية مع المضمون العلماني للمرحلة التاريخية الراهنة هي مسألة طويلة ومعقدة ومتدرجة وصراعية ومفتوحة على كل الاحتمالات. ومن أهم سمات هذه العملية - أي التكيف - إنها تجري في أحضان عملية اكبر واعمق واشمل هي عملية الانتقال الذي اطلقها الربيع العربي من الطغيان الى الديموقراطية. وفي هذا السياق تحديداً تلعب العوامل التالية دوراً رئيسياً في دفع عملية التكيف الى الامام:
- الجماهير، بوعيها وإرادتها وتصميمها على المضي قدماً الى الأمام باتجاه بناء مجتمع الحرية والكرامة والوحدة الوطنية والعدالة الاجتماعية. - القوى الشبابية العلمانية، المتدينة وغير المتدينة، التي تشكل قوة رمزية جبارة نظراً لشرعيتها التاريخية في إطلاق الربيع العربي. - الاحزاب والقوى العلمانية الربيعية بمختلف اطيافها الليرالية واليسارية والقومية، وخاصة مع تجديد فكرها وسياساتها وسلوكها بما يعزز من نفوذها بين الجماهير والنخب الشبابية. - المجتمع الدولي وفي مقدمته الدول الغربية التي تدعم التحولات الديموقراطية الجارية في العالم العربي، وتتعاطى بإنفتاح وإيجابية مع الحركات الإسلامية المنخرطة في عملية التغيير بما في ذلك إمكانية أن تلعب هذه القوى - أي الإسلامية - دوراً قيادياً، ولكن في ظل التقيد بالديموقراطية والتعددية السياسية والتداول السلمي والدوري للسلطة.
لقد انطلقت التحولات التاريخية الكبرى في العالم العربي، ولن تستطيع أية قوة، وتحت أي مسمى، أن توقف هذا المسار التقدمي العلماني بجوهره. نعم، الإخفاقات المحدودة واردة، والانحرافات المؤقتة محتملة، والانتهازية بمختلف أشكالها لا يمكن تفاديها، ولكنها جميعاً لن تؤثر في نهاية المطاف على المسار العام بإتجاه بناء العقد الاجتماعي النوعي الجديد لمجتمعاتنا العربية وعماده الدولة المدنية الحديثة.
|