التاريخ: تشرين الثاني ٢٠, ٢٠١١
المصدر: جريدة المستقبل الللبنانية
إسقاط الطائفية: كلام فاتح على ورق غامق - هاني فحص

إن الراغبين بالمواطنة نصاباً جامعاً لهم في لبنان، على موجبات تكوينية وقانونية تحمي الخبرات والخيارات الوطنية من الشرور الطائفية، لا يخفون خوفهم من أن يكون المضاربون على الوطن والدولة بالطائفة، والمضاربون على أبناء الطائفة بالحزب الطائفي، الذي يشاكل الطائفة ريثما يفتك بها من خلال استخدامها المنظم في تفخيخ الوطن والكيان متسللاً من الأمكنة الرخوة في عمارة الدولة.. أخاف من أن يكون هؤلاء المضاربون بأموال ودماء وأحلام غيرهم، يساعدوننا أحياناً أو كثيراً إذا اقتضى الأمر وقضى كيدهم وخبثهم، على إخراج الطائفية من شباك الوطن خطابياً لأنهم قد تفرغوا مجتمعين، وإن تناقضوا لفتح أبواب الدولة والوطن، لتعود الطائفية فتجتاح منازلنا الوطنية من أفنيتها الأمامية والخلفية الى مطابخها ومخادعها وتفاصيل أثاثها الفكري العاطفي وملابسها الداخلية الخ. أخاف، ودائماً كنا نخاف ولكن الخوف هذه المرة أصبح جَزَعاً من أن نعود الى سيرتنا ومآلاتنا في محطات الاحتجاج، التي شاركنا فيها على أمل ما، فاستيقظنا عليهم وقد تغلغلوا فيها ووجهوا حبوبها الى مطحنة الطائفية .


ودائماً كنا نريد إسقاط النظام الطائفي من أجل بناء الدولة الأكثر صلاحاً من شبه الدولة، الذاهب دائماً والآن بسرعة أكثر نحو اللادولة من خلال المطابقة، لا بين الطائفة والدولة لأنهما نقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، أي أنه إما الدولة وإما الطائفة والأرجحية عند الطائفيين دائماً هي للدولة، بل من خلال المطابقة بين الطائفة والسلطة، ما يعني تحويل الوطن الى كيس كبير يجمع شظايا الجماعات لصالح مستفيد آخر. وبالفوضى المنظمة أو الفيدرالية أو الكونفدرالية، نكون قد وضعنا لبنان على طريق نهاية الروح والمعنى والدور والرسالة، بتحويلها الى طابع بريدي يحمل صورة العمارة اللبنانية في مرحلة البداية كواقعة تذكر ولا تعاد أو تُستعاد.


كنا نريد إسقاط النظام ونمشي على طريق إسقاطه، وفي النتيجة لم نكن ننتهي إلا الى إسقاط ركن آخر أو طابقاً آخر من بنية الدولة، لحساب النظام الضعيف المستولي عليها بنا.
أخاف وأشك في أن يكون في مقدور أحزابنا الطائفية، وبعيداً عن المجاملة الخادعة للذات والآخر، اصرح بأني على يقين من عدم قدرة هذه الاحزاب أو الأفخاذ الطائفية، مهما تحايلت علينا وعلى لغتنا، على تغيير النظام، هذا إذا كانت تريد، وهي لا تريد، لأنه نظامها وهي نظامه.

 

إني على يقين، على الرغم من اني كثير الشك، بأني في انحيازي الى الدولة المدنية، غير الطائفية وغير الدينية والمفصلة على مقاس طائفة واحدة أو عدة طوائف، إنما أهدف أولاً الى صيانة الدين الذي لم يتفق حتى نقاده على عدم ضرورته، من السلطة ومن الطائفة، وصيانة الدولة من السلطة الدينية، لأن كلاً منهما إذا تسلّل أو تسلّط أو سُلِّط على الآخر يأكله أو يمحقه ويتآكل به.. هذا إذا جمعا قسراً، في حين أنهما يتبادلان المنافع ويزدهران معاً بالإجتماع الطوعي والطبيعي، ومن دون وصفات جاهزة مستوردة من مكان علماني هنا أو مكان ديني سياسي هناك.. وهما يجتمعان على شرط الحرية في الوظيفة الحضارية المشتركة وفي مقام الحصيلة لا في الوظيفة الإدارية للشأن العام التي هي من أهم خاصيات الدولة، ولأجله تقوم ومن دونه لا تقوم أو تزول إن قامت. ولا في الوظيفة العبادية خاصة الدين المتعدد قطعاً والذي لا يمكن ولا يجوز لأي مثال من أمثلته أن يمنع وصول الآخرين الى ربهم لأن "الطرق الى الخالق تتعدد بتعدد أنفاس الخلق" كما في مأثورنا الجميل.. هذا والتعبد الديني في الإدارة والسياسة هو إلغاء للدولة لأنه إلغاء للمساءلة، التي هي قوام العلاقة التكاملية والتصحيحية بين الدولة الأجيرة والمجتمع المستأجر، والسلطة الدينية لا تقوم أولا تنتهي إلا الى إلغاء الدين والدولة بالسلطة، التي هي إحدى وظائف الدولة الملزِمة بالقانون، في مقابل السلطة الدينية (الروحية والتعبدية) التي هي أقرب الى الإختيار الطوعي منها الى الإلزام "أفأنت تكره الناس أن يكونوا مؤمنين"، كما في القرآن الحكيم.

 

لو خيرت، وأنا أخيّر يومياً، بين الطائفة والدولة، وبين الحزب الطائفي وحزب الدولة، لاخترت الحرص على الطائفة.. ولكن من أجل الدولة، وأكون بذلك قد اخترت ما يحفظ أبناء الطائفة ويصون أديانهم أو مذاهبهم .. وقد فعلت ذلك ولن أتراجع، وفيما أنا لا تجذبني أساليب التنصل من الطائفة أحلم أن أبقى في طائفتي وتبقى فيّ طائفتي كطبقة أو شقة في عمارة الوطن التي لها شرفات مفتوحة على مدى أوسع من الكهف وموصولة بشرفات أخرى، ولها شبابيك تستدعي شمس الوطن لتطهر وتدفئ وتغير الهواء الوطني بتنشيط الحياة وتنظيف الرئة الطائفية من بقايا المسكنات الضارة والكورتيزون الذي ينشط المرض في ما هو يعالج الألم .. ولها أبواب تغلق على الخصوصيات وتفتح على المشتركات بعد أن تكون الطائفة قد ارتدت ملابسها الوطنية ونظرت في المرآة وخرجت الى الفضاء الوطني معطرة اللغة بعبق الحوار .. ولا أختار الدولة الطائفة، أي الدولة التي هي من صناعة أو اصطناع الطائفة، أو الدولة التي هي من أجل الطائفة . لأنه إذا كانت الطائفة من أجل الدولة فإنها تلزم الدولة وتمكنها من حفظ الطائفة كوظيفة وطنية للدولة، بينما الطائفة تقوض الدولة إذا أنشأتها أو اختزلتها على هواجسها المنفصلة عن السوية العامة، لأن ذلك يؤدي الى تعطيل التبادل والتداول اللذين هما قوام الدولة أو معناها الحقيقي الذي يزداد عمقاً ووضوحاً وجمالاً بالمعاني المجازية أو الكمالية فوق الضرورية التي تأتي من العيش المشترك تحت ظلّ الدولة الجامعة .

 

ولأن الدولة الطائفة، وحتى الدولة الأمة إذا كان المعيار الوحيد فيها هو العنصر البيولوجي المشكوك في صفائه في الحالة العربية، وكثير من الحالات التي تعدت فيها الشعوب أحياءها الجغرافية والسلالية، وانساحت في الدنيا لتؤسس لمشاهد كوسموبوليتية، تحولت الى رافعات حضارية من قديم الزمان من اليونان وفارس الى الربع الخالي (الآن) الى قرطاجة والسياحة الفينيقية، الى الحضارة الرومانية التي وإن أوجعت فقد شيّدت، الى المسيحية أنيء حفظت نفسها وروحها بعبور الحدود، الى الاسلام الذي خالط أو مازج الآخرين في مقتنياتهم .. وتحولت الحضارة الإنسانية، الى متراكم مشترك تسطع عناصره أو تذهب في العمق الى قعر الذاكرة لتستقر في الجينات .. وعوداً على بدء فإن الدولة الأمة إذا قامت على العنصر والعنصرية القبيحة والقاتلة المقتولة، لا تعني نظرياً وأدبياً وتاريخياً وعملياً أكثر من شطب الحرية والإختيار من قائمة الضروريات أو الضرورات المكونة للأفراد والمجتمعات وهما، الحرية والإختيار، ليسا من كماليات الدين، الذي إن لم يحرص عليهما ويصنهما بالشريعة والعبادة عرض نفسه للإنحسار وعرّض التدين والإلتزام بالدين الى الإندحار .. ومن هنا في نظري وبأدلة شرعية وسياسية نظرية، وملموسة ومستنبطة من التجارب المختلفة، فإن الدولة ضرورة الطائفة، إن كانت الطائفة ضرورة، وهي (الطائفة) ضرورة لأناس دون آخرين ملزمين باحترام اختيارات الآخرين، والدولة ضرورة الطائفة، والطائفة ضرورتها، لا بلحاظ كونها طائفة سياسية بل بلحاظ أفرادها المواطنين ايضاً أو أولاً . ولا بصفتها جماعة ناجزة مكتفية أو غير مهتمة بمتابعة إنجاز حالها لتصبح ضرة للدولة أو ضرراً عليها .

 

إن الطائفة بوصفها مجموعة من الأفراد المواطنين بالمعنى القانوني لا البيولوجي للمواطنة، الملتقين طوعاً وبالضرورة مع أفراد المجموعات الأخرى تحت سقف القانون والمؤتلفين حقوقياً على اختلاف بينهم، هي شأن الدولة وليست شأن الطائفة بذاتها .. لأن الدولة هي خيمة اجتماع الطوائف كمجموعات وطنية أما خيمة اجتماع الطائفة كجماعة دينية حرة في دينها فهو المسجد الجامع أو الكنيسة الجامعة، واللذين لا بد من إعادة وظيفتها الجامعة اليهما بعد أن غابت الأيقونة عن المذبح وقفز السياسي الى المحراب لإمامة الصلاة وخطبة الجمعة وصلاة الجنازة وعقد الزواج والدولة وحدها، بمساعدة اجتماعها المتنوع الحافظ لمقام الوحدة في تنوعه، هي القادرة على الجمع وتحقيق التشارط أو الشرطية المتبادلة وجودياً ومعرفياً بين المكونات المتعددة في ظل الدولة الحاضنة المُحتضَنة، وفي عهدة نظام من المصالح المشتركة التي لا يمكن أن ترعاها إلا الدولة وإلا أصبحت متناقضة، ما يهدد بهدرها .. هذا وإن قصرت الدولة أو جارت فإن هذا الدور محفوظ لها لأن غيابها أو تغييبها هو جور نوعي مضاعف وقد ورد في مأثوراتنا : "سلطان غشوم خير من فتنة تدوم".


وعندما تمّ تحويل الحاكمية الى الله على مقتضى الغرض الخارجي أي غرض طائفة الخوارج ردّ علي بقوله " كلمة حق يراد بها باطل" يعني قولهم :"لا حكم إلا الله" وصرح علي :" لا بد للناس من أمير برٍّ أو فاجر.. يؤمن به السبيل ويُجبى به الفيء و.. حتى يستريح برٌّ أو يُستراح من فاجر" . وكان قبلها قد أعلن التزامه بمترتبات تشكل السلطة من دونه على قناعته بأنه أجدر بالرئاسة فقال : " لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليَّ خاصة" وبقي في صلب الاجتماع والدولة. فقال للمسلمين جميعاً وقتها وللعرب وللشيعة الإمامية الآن وغداً : إن قراءته للقرآن بتدبر عميق قالت له : إن الاسلام والدين عموماً لم يصف لنا دولتنا بأوصاف ثابتة بل وصف لنا مجتمعاً بأوصاف ثابتة ومتغيرة، وبقيت الدولة في المنظور الإسلامي متغيراً أهم ثوابته العدالة والعدل بما هو انسجام وتكامل وحرص على الإختلاف كالحرص على التوافق.. إذن فلا تعبد بأي شكل من أشكال الدولة لأنها ضرورة اجتماع عام، لا خاص، طائفي أو مذهبي، ولا حزبي، فضلاً عن العائلي .. وهي تقدر دائماً بظروفها المتغيرة في الزمان والمكان والإنسان . بشرط أن تبقى مكاناً لاجتماع الهويات الفرعية على هوية اصلية ولكنها مرنة ومركبة ومفتوحة على الآخر المختلف ليدخلها مرتاحاً إذا شاء أو يستدعيه أهلها إليهم إذا احتاجوا، لأن فرادة أي كيان لا تتحقق إلا بالمزج والدمج أو الاندماج الذي يضيف خصائص نوعية الى كل طرف من أطرافه .


وإذا تم استفزاز الهويات الفرعية وإيقاظها أو وضعها وجهاً لوجه مع ضرورات وجودها وسلامتها الجسدية والثقافية، تكون الدولة أو السلطة قد فككت وحدتها السياسية بتفكيك وحداتها المؤسِّسة .. التي لا حصانة لها إلا بالأداء الجامع والعادل والقوي والذي يستمد عدالته من قوته وقوته من عدالته .. والدولة إما أن تفعل ذلك وإما أن يتحول اجتماعها الفرعي الرافد للاجتماع العام بعناصر الحيوية، الى حيز لإنتاج الوعي المرضي بالهوية الفرعية، وإما أن تشغل أجهزة الفروع الوقائية في الإنتاج الذاتي والتلقائي للمضادات الحيوية للإنشقاق مع ظهور علاماته كمرض وقبلها وبعدها، حتى لا يقضي على الذاكرة المشتركة والحلم المشترك والمناعة المكتسبة، بالتواصل والإيمان والتوحيد والثقافة البينية المشتركة إنتاجاً وانتفاعاً بالمنتج الذي لا يمكن أن يتوفر إلا بالشراكة مع حفظ الخصوصيات ومحبتها وتنشيط وتوسيع وتحرير المساحات المشتركة حديقة الروح والجسد وفضاء المواطنة أو بستانها الذي لا يكون بستاناً كاملاً إذا لم يتيسر له اختلاف في نوع الأشجار أو داخل أصنافها .. طبعاً مع الشغل الدائم غير المتعسف أو المتعجل، على تضييق مساحة الإختلاف من دون ضيق به أو خجل منه أو كره له، ومن دون توهم بإمكان إلغائه الذي قد يضر أكثر مما يفيد، هذا إن لم يكن ضرورياً ولا يحتاج لتغليب محاسنه وفوائده على مساوئه ومضاره إلا الى الإدارة الحكيمة، هذا الى استحالة الإلغاء التام للإختلاف وحتى شبه التام لأنه تكويني الى حد القانون، ولأن الإلغاء إعدام أو تجفيف لمصادر الحيوية الأرقى والأُولى والأَوْلى في الإجتماع البشري وعوالم الكائنات المختلفة وكل ما يكون جميلاً إذا بقي بسيطاً ولكنه يكون أجمل لأنه أنفع إذا أصبح مركباً بشرط الاندماج لا الذوبان ولا التذويب .. أو تغيير الدم الذي لا يتغير، عندما حولت القومية العربية المنغلقة والمسحوب منها عصبها الإنساني، حولت !!! هل حوَّلت فعلاً .. الأمازيغ والأكراد الى عرب بالعزل والإهمال أو القتل الجماعي بالكيماوي وغيره !! ونص القرآن واضح في هذا المجال " .. ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين، ولذلك خلقهم " .. إذن فالإختلاف ناموس كوني لا يمكن إلغاؤه بل يمكن تطويره من داخله وبوتائر وطرق مختلفة بين مكان ومكان وزمان وزمان .. ولكن بالدولة دائماً وبالثقافة المجتمعية التي تخلق وتجدد الوعي بأولوية الدولة على الجماعة الإثنية أو الطائفة حماية للطائفة بالدولة وإغناء للدولة بالطائفة عندما يصبح وعيها بذاتها محكوماً بوعيها الوطني العام ووعيها للشراكة داخلها فيها ومع غيرها، بتضييق لمساحة الاختلاف من دون افتعال، ودائماً، إذن، نحتاط من إلحاح أهل الفتن والشقاق ومقاولي الحروب على تنزيله على الخلاف تمهيداً للصراع ومراكمة بشاعات الحروب وفوائدها الحرام لأهل الحرام، بحيث لا يمكن إيقافها في أي محطة، ولو مؤقتاً، إلا بالتنازلات غير المشرِّفة وإن كانت ضرورية، وقد كانت مشرِّفة لو تم تبادلها في حالة السلام قبل الحرب .. وكانت أقل كلفة من خسائر الحرب، أو تم هذا التبادل في بداياتها التي غالباً ما لا تكون مفهومة حتى للمنخرطين فيها الذين يصبحون من ضحاياها .. إن التضييق الدائم لمساحة الإختلاف يؤدي الى تفادي الحروب أو تأجيلها أو تقصير مدتها أو تقليل بشاعاتها أو سد الذرائع على التدخلات الخارجية فيها واستخدامها واستخدام نهاياتها لأغراض خارجية متعددة ومتواطأ عليها لدى الخصوم الذين يتنازلون عندما يتبادلون الحصص على بيادرنا إذا اضطروا الى التسوية التي تبقى أكثر تشريفاً لأطرافها وأكثر حفظاً لمنظومات القيم والأفكار والمصالح المشروعة، والاستمرار في إنتاج المعرفة الذي يقع على راس حاجاتنا ومعاناتنا من تعثره وحاجته الى الحوار والوفاق ليواكب المستجدات ويسهم فيها .