التاريخ: تشرين الثاني ٢٠, ٢٠١١
المصدر: جريدة الحياة
الفكر القومي يترنح في قلب العروبة النابض - أكرم البني

انتقل أهل الحكم في دمشق إلى شن هجمة محمومة من الاتهامات بالعمالة والخيانة ضد الجامعة العربية والدول التي ساندت القرار، واستحضروا ما راق لهم من مواقف «تعاب» على العرب ودورهم في نصرة قضاياهم الكبرى، في فلسطين ولبنان والعراق وغيرها.
صحيح أن الثورات العربية قامت في تزامن لافت وتجري وفق نسق كأنها حلقات من سلسلة واحدة، وصحيح أن نجاح الثورتين التونسية والمصرية ترك أثراً عميقاً في الشارع السوري وكان أحد أهم حوافز تحركه، لكن الصحيح أيضاً أن الهم القومي لم يكن حاضراً هذه المرة في الاحتجاجات، ولم يرفع المتظاهرون الشعارات الوطنية للتعبئة والتحشيد، بل إلى جانب غياب شعارات الوحدة العربية ومقاومة الاستعمار والصهيونية وتحرير فلسطين والأراضي المحتلة، كان واضحاً أن غرض المتظاهرين من إصرارهم على موقف حازم من الجامعة العربية ليس إلا تشديد عزلة النظام، وأن استنجادهم بالدور العربي كان كمحاولة لتقليد ما حصل في ليبيا ليكون موقف الجامعة معبراً لتدويل الأزمة السورية ووضع حماية المدنيين في يد المنظمة الأممية ومجلس أمنها.


والأوضح أن الهتافات المناهضة لإسرائيل والداعمة للجولان وفلسطين لم تصدح إلا بصفتها مفارقة لإحراج النظام الذي زج بالقوات العسكرية في مواجهة الشعب المنتفض وليس ضد المحتل الغاصب.
الأمر ليس غريباً أو مفاجئاً بل هو حصيلة طبيعية لانحسار الهم القومي لدى الناس، وتراجع إيمانها بدور هذا الفكر كحافز نضالي وتغييري، وقد لمسوا لمس اليد ما آلت إليه أوضاعهم والنتائج السلبية المثيرة للقلق التي حصدتها سنوات طويلة من تغليب هذا النضال وكيف استخدمت الأنظمة العقيدة القومية وفلسطين لتسويغ الاستبداد وتعزيز سلطانها واستئثارها بالامتيازات.


وليس صدفة أن لا تحظى فكرة المؤامرة والإثارة الرسمية عن مخطط خارجي، إمبريالي وصهيوني، يسعى للنيل من الموقف الممانع السوري، بأي حظ من الحياة في قلب العروبة النابض، وليس صدفة أن تكون القوى، حتى من صفوف المعارضة، والتي لا تزال تتعاطى مع الأزمة الراهنة وفق منظور الهم القومي وشعاراته، هي الطرف الأضعف حضوراً وتأثيراً في الحراك الشعبي، وأيضاً ليس صدفة إبعاد حزب البعث كحزب قائد عن المشهد، فغاب دوره وغابت شعاراته، ولم يسمع أي صوت مؤثر لقياداته في إدارة الأزمة، حتى المهام النمطية القديمة التي عرفناها تاريخياً عن البعثيين في دفاعهم عن الوضع القائم تحت عنوان مواجهة الهجمة الامبريالية، غابت هي أيضاً، والأهم أن الألوف المؤلفة من قواعد حزب البعث وكوادره، بخاصة في المناطق التي شكلت في ما مضى الخزان البشري للفكر القومي، في حماة وحمص ودرعا، هم اليوم من يشارك في الاحتجاجات والتظاهرات ويحملون الهم الديموقراطي ولواء الحرية والكرامة في مواجهة الحملة الأمنية والعسكرية المستمرة.


لكن، وبرغم ما سبق، ثمة بعد قومي للثورات العربية الراهنة يتضح ليس فقط في قوة وعمق المشتركات وتشابه أوجه المعاناة، وإنما أيضاً في تشابه الشعارات والمطالب والأحاسيس، وأيضاً في الألفاظ والوسائل وحتى المسميات التي أطلقت على أيام الجمعة، وفي مدى التلاحم والتضامن ونقل الخبرات الميدانية من ثورة إلى أخرى، بخاصة سبل التواصل بين النشطاء وفنون التصدي لأجهزة القمع، كما لو أن الجميع أعضاء في جسد واحد يتصدون لعدو واحد وينتابهم إحساس وأمل واحد، فتبدو ثورة مصر كأنما تستمر في الثورات الأخرى وتجد ثورة تونس نفسها مسؤولة عما يجري في مصر وليبيا، وبنفس القدر يتطلع المحتجون في اليمن وسورية إلى تطور الثورات الأخرى كأن مصيرهم يرتبط بها، وكأن ما يحصل يؤكد أن معركة الشعوب العربية من أجل نيل حريتها وكرامتها هي في النهاية معركة واحده.


المعروف أن أحد أهم مثالب الفكر القومي في المشرق العربي أنه نشأ كفكر إيماني وعفوي ولم يكن يمتلك أساساً في البنية التحتية، وأن القومية كرؤية فكرية للمثقفين العرب ولدت بالضد من مطامع الخلافة العثمانية ولم تحملها قوى وطبقات لها طموحات اقتصادية في تحرير سوقها الداخلي والاستقلال به وإنجاز مشروعها الاقتصادي والسياسي، لكن اليوم تبدو المعادلة مختلفة وقد نضجت شروط موضوعية جديدة لا تعود فقط الى التاريخ المشترك وروابط اللغة والأرض، وإنما أيضاً الى هزال التنمية في كل بلد على حدة وإلى المناخات الدولية الراهنة.
فما يشهده العالم من بناء التكتلات السياسية والاقتصادية الكبرى يؤكد استحالة نمو الكيانات الصغيرة بصورة صحية، الأمر الذي يتطلب بداهة تجميع كل الموارد العربية وتجاوز النظرة والحلول القطرية الضيقة كطريق لا غنى عنها للارتقاء بالمجتمعات العربية عموماً وتعزيز حضور كل مجتمع على حدة.


إن عودة الناس إلى السياسة وقيام أنظمة عربية ديموقراطية وتنامي العلاقة العضوية بين الثورات وترابط مآلاتها سينعكس بتضافر من طراز جديد بين الشعوب العربية معطياً معنى جديداً لنضالها القومي، بخاصة إذا اقترن بمراجعة نقدية تحرره من جملة التباسات أحاطت به، ومن أخطاء واندفاعات بالغة الخطورة ارتكبت باسمه، وأساساً لتحريره من نزعة إيديولوجية حولته الى عصبية شوفينية لا إنسانية، ومن الدأب على مقايضته بالديموقراطية والحرية، فهذه الأخيرة هي الضمانة الرئيسة لفتح أوسع الآفاق أمامه، ليس فقط لاتصال مسألة الحريات العامة والخاصة بتشابه معاناة الإنسان العربي، وليس لأن الديموقراطية بما توفره من مشاركة شعبية واحترام لكرامة البشر هي الصيغة الأسلم للعلاقة بين الحاكم والشعب، وإنما أيضاً لأن الديموقراطية أيضاً هي ضمانة الوحدة الوطنية المهددة داخل عدد من البلدان العربية، وهي التي تفسح المجال لإرادة الغالبية كي تقول كلمتها بحرية وتظهر ما يعتمل في صدرها من أحاسيس قومية ومواقف وحدوية.


فتبني الفكر القومي لمواقف جديدة تواكب ما يحصل من متغيرات وإغناء شعاراته بقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان، يشجع على السؤال، هل أنقذت الثورات العربية الفكر القومي العربي من أزمة انحطاط وموات ووضعته في إرهاصات أزمة نمو وأمام لحظة انطلاق جديدة تعيد إلى الواجهة دوره الثوري وأفكاره الوحدوية والتحررية والتنموية.