التاريخ: تشرين الثاني ١٩, ٢٠١١
المصدر: ملحق النهار الثقافي
في "الشعب" والتدخل الدولي - محمد دحنون

بكثير من الثقة والانسجام الذاتي، وبتحرّر كامل من الأدلجة، يرفع المحتجّون السوريون في غير مدينة وقرية منتفضة لافتات تطالب بـ"الحماية الدولية" أو "التدخل الخارجي" مزيّلةً بتوقيع "أحرار مدينة...". ولا يرى المحتجون في ذلك تناقضاً بين سعيهم الحثيث لنيل الحرية وطلب العون من الخارج.
يتصل الأمر بنظرة الشعب، المولود حديثاً، إلى نفسه كصاحب قرار وحقّ في تقرير المصير، ونظرته إلى "الخارج" المتحرّرة، وليست المستجدة، من صفات دأبت إيديولوجيا الممانعة السورية على وسم الخارج بها: من التآمر والعدوانية إلى الشيطنة أحياناً!
كان الحشد الذي سُمّي زوراً الشعب، في المرحلة العربية ما قبل البوعزيزي، فاقد "الشعبية"، بمعنى يتصل بمصادرة الفعل والإرادة، اللذين من خلالهما، يشارك المجموع في صناعة تاريخه ويعي ذاته كشعب يفعل ويريد.


تبدّلت الحال تبدّلاً جذرياً بفعل شرارة إحراق الجسد التي أقدم على إطلاقها الشهيد التونسي. تحوّل الحشد - الشعب المغيّب فصار الفاعل الرئيسي في سياق الوضع الذي أنتجته انتفاضته، وبدا الشعب الثائر قاطرة، وكل ما عداه من نظام سياسي، ومعارضة تقليدية، وقوى إقليمية ودولية، مقطورات. تأكّد الأمر من خلال تحوّله مصدراً للفعل، فقد جاء كل تفاعل مع ولادته المستجدة ومشروعه التحرّري، ومن أي جهة كانت، تحت خانة ردّ الفعل.


تفوّق الأفراد على أنفسهم، ليس فحسب حين تجمّعوا واعين الغاية النبيلة من وراء تجمعهم، بل وأيضاً حين تجاوزا شروط عيشهم المراوحة بين "القهر" و"الهدر". وهم باستكشافهم لقوتهم كشعب، تجاوزوا تماماً كلاًّ من النظام السياسي بفعل ثورتهم عليه، والمعارضة التقليدية بفعل جذبها المفاجئ للانتقال بها من موقع "الاهتمام بالشأن بالعام" إلى موقع "النضال الثوري" المعني بإسقاط النظام.
لم يحدث هذا التجاوز بسبب فعل الانتفاض الجماعي فحسب، بل جاء أيضاً من خلال امتلاك الشعب المولود حديثاً لـ"رؤيته السياسية"، الثورية في طبيعة الحال، التي وإن ظهرت، مرحلياً، بشكل هتافات وشعارات، إلاّ أنها لم تعدم من يضطلع بعملية تحويلها إلى جدول أعمال سياسي.


لكن، وفي سياق مقارنة تبدو غير مكتملة الشروط، يمكن القول إن ولادة الشارع باعتباره "الشعب الذي يريد"، بغض النظر عمّا يريد وكيف يريد ما يريد، بدت أكثر أهمية، من وجهة نظر التقدّم المجتمعي، من طرحه أو حتى امتلاكه مشروع التغيير السياسي. مصدر الأهمية يقع في مكان آخر، يتصل بولادة الدولة، على اعتبار أن الشعب هو النواة الأساسية في بناء الدولة.


لا ينفي ما سبق وجوداً "ما" للدولة في المرحلة العربية، ما قبل البوعزيزي، لكنه يقول عنها شيئاً آخر: فراغها من المضمون الشعبي، بمعنى تحوّلها عبئاً على المواطن وليس جهازاً معنياً باحترام حقوقه الأساسية أو توفير فرص الترقي الاقتصادي والاجتماعي له، إذ تغدو حاصل جمع لترهلات العمل المؤسسي البيروقراطي، ومنبع فساد وإفساد مستمر لكل الداخلين في دوّامتها، هذا بالإضافة إلى فقدانها دورها التنموي. ربما كان الأخطر من هذا كله، ما يتعلّق بـ"تحرّرها" من فكرة السيادة الشعبية، أي نزع إمكان الاحتجاج والرفض من مجتمع المحكومين على "سياساتها". يتجلّى هذا بصورة أوضح حين يتمّ احتكار إدارة الشأن الخارجي للمحكومين من قِبل من يُفترض بأنهم موظفون لديها، وهم عملياً، نخبة الحكم التي تتحوّل في الأنظمة السياسية العربية طغمة مغلقة.


المضمون الغائب للدولة ينحصر في عنوانين عريضين: تحويلها، بطرق غير شرعية و"قوانين استثنائية"، أداة في يد الفئة الحاكمة بغية استملاك البلد، وهذ شيء يمكن اختزاله بـ"رأسمالية الأقارب والحبايب" (عزمي بشارة). أمّا عن المعنى الثاني، فيتعلّق الأمر بصوغ السياسة الخارجية، إذ تتوقف "دولة الطغمة" عن صوغ تلك السياسة وفق ما تفرضه مصالح مجتمع المحكومين، وإنما تغدو سياسة خاصة بمجتمع الحكم المغلق، الضيّق، الذي لا قضية له سوى الحفاظ على مصالحه وتعزيزيها، وعلى مقدمها بالطبع تأبيد حكمه.


في ما يتعلّق بهذا الجانب، يبدو النظام السوري كأنه النموذج الأكثر اكتمالاً لهذا الشكل من الدول: "الدولة الخارجية" (ياسين الحاج صالح)؛ يعدم النظام بأدوات العنف الداخل الوطني سياسياً، بشرائحه وفئاته كافة، ويواصل إعدامه اقتصادياً، في سياق عملية نهب البلد، وتؤسّس الطغمة لتحالفات خارجية تلعب من خلالها على موازين القوى الإقليمية والدولية بما يضمن تحويل قضيتها الأثيرة، البقاء في سدّة الحكم، قضية "خارجية".
المفارقة، غير المفاجئة، تتجلى في حقيقة أن النظام الذي طالما "تعيّش"، بصور مختلفة، على الخارج الإقليمي والدولي خلال حقب مختلفة وعبر مسارات متباينة، يتهم جميع معارضيه الذين يشكّل "الشعب المنتفض" أكثريتهم الساحقة، بأنهم ينفّذون أجندات خارجية وبأنهم أدوات لتنفيذ ما يسمّيها مؤامرة على الوطن: يعني بهذا، النظام نفسه!


بفعل الثورة، تشرع سوريا في الانتقال من حال القوقعة الفارغة إلى حال المجال المفتوح على التغيير الجذري. بدأ الأمر في مدينة درعا حين عبّر مجتمع محلّي عن استنكاره ورفضه لفعل شنيع تمثّل في اعتقال سياسي لعدد من الفتية. ما قام به وفد من وجهاء المدينة حين توجّه، معترضاً، إلى سلطة أمنية، كان تعبيراً أولياً عن أحد أهداف النضال الشعبي في سوريا اليوم: الإجهاز على سلطة الدولة الأمنية لصالح بسط سلطة الدولة المدنية. مع توسع دائرة الحركة الاحتجاجية وتثوير مطالبها وتجذّرها، بات من الممكن القول إن السوريين المنتفضين أصبحوا أكثر قدرة على تسلّم زمام المبادرة لحكم البلد حكماً مصدره الشعب، يصوغ "سياسته" بما يتماشى مع مصالحه هو، وليس مع مصالح أيّ نخبة.


في الوقت الذي لم تتوقف خلاله الآلة الأمنية للنظام عن إزهاق أرواح الألوف من السوريين (أكثر من أربعة آلاف شهيد)، هذا عدا الممارسات السلطوية العديمة الأخلاق والمسؤولية التي تتلاعب بمصير البلد ككل، يغدو من الطبيعي أن يتصدّر "حق الحياة" لائحة تلك المصالح. فما يفعله السوريون المنتفضون اليوم هو، في إحدى صوره، كفاح نبيل في سبيل استرداد وجودهم الإنساني على المستوى الفردي أوّلاً، واستعادة حقّهم في تحديد مصالحهم كشعب على المستوى الجماعي تالياً. المقصود بذلك، في ما يخصّ العلاقة مع "الخارج"، إعادة صوغ علاقتهم كشعب مع الأطراف الإقليميين والدوليين بما يتماشى مع مصالحه، إذ يتحرّر من المسميات التي فرضها النظام الاستبدادي على كلّ تعاط مع "الخارج" لا يمرّ عبره، ليدخل في منطق تبادل المصالح. قد لا يبعث منطق تبادل المصالح الطمأنينة لدى الكثيرين، على اعتبار أن الدول، باختلاف درجات تطوّرها وتقدّمها، ليست جمعيات خيرية، لكن من ينتظر منها أن تكون كذلك؟!


تبدو قضية التدخل الدولي شائكة، إلى أن يتوافر، في مرحلة أولى، أمران أساسيان: مستوى عال من الشعور بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الضحايا، وتحلّي النخب السياسية والثقافية بالجرأة للتحرّر من قوالب إيديولوجية وثقافية متهافتة.
غالباً ما يكون للقوي والضعيف تسميتان مختلفتان لشيء واحد، فما يمكن أن يدعوه القوي مصالح سيدعوه الضعيف مؤامرة. الشعب اليوم هو القوي وهو من يسبق الجميع إلى استرداد حقّه في تحديد مصالحه.

كاتب سوري