| | التاريخ: نيسان ٦, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة الحياة | | النزاع في اليمن يغتال أحلام معلّمين وتلامذة | عند الثامنة صباحاً، وبيدين أنهكهما المرض، يفتح أنور عبد الوهاب ذو الستة وأربعين عاماً، أبواب معمل بسيط للمثلّجات في مدينة الحديدة غرب اليمن، وهو الذي لطالما فتح عند التوقيت ذاته أبواب المعرفة على مصراعيها لتلامذته الذين ارتبط بتعليمهم لأكثر من 14 عاماً.
خلال ثلاث سنوات، أغلق النزاع الذي تشهده البلاد، في وجهه كل الأبواب التي كانت مشرعة للحياة، فضلاً عن أنها اغتالت ما تبقى لديه من صحة على رصيف العمر.
انقضى أكثر من عام ونصف العام، منذ توقفت رواتب العاملين في قطاعات حكومية متعددة، كان التعليم واحداً منها، ما فاقم معاناة المعلمين جراء فقدانهم مصدر الدخل الوحيد الذي لا يتجاوز في أحسن الأحوال ما يعادل 150 دولاراً في الشهر الواحد.
كان أنور بالتأكيد واحداً من المعلمين الذين اكتووا بالآثار المترتبة على توقف المرتبات، إذ أصبح حينها «عاجزاً تماماً»، كما يقول، عن تأمين الاحتياجات الأساسية لأسرته المكونة من بنتين وولدين إضافة إلى زوجته.
لم تتوقف غصة العجز هذه عن شغل تفكيره، حتى ألقت به في كرب سحيق أفضى به إلى نوبة اكتئاب لم ترحم توسلات روحه المنهكة، لينتهي به الحال مصاباً بحالة نفسية تستدعي بين وقت وآخر عرضه على طبيب مختص، وهو ما يعني عبئاً إضافيا على الأسرة المنكوبة أصلاً.
بجهود بعض أقربائه ومحبيه، تم عرضه على طبيب ومساعدته في تلقي علاج ساهم في تحسن حالته الصحية، لكنه يؤكد أنه، ما يزال يتسلل ليلاً متخفياً إلى منزله خوفاً من ملاحقة مالك المنزل الذي تقيم فيه أسرته بإيجار شهري تبلغ قيمته 35 ألف ريال (نحو 72 دولاراً) وهو المبلغ الذي تراكم ديناً عليه جراء توقف الرواتب، علماً أن استمرار توقفها قد يؤدي إلى قذف الأسرة بكاملها إلى العراء.
كان العمل في محل الآيس كريم، وفق ما يقول أنور «منفذ طوارئ اضطرارياً» لتوفير ما يعادل دولارين في اليوم الواحد، وهو مبلغ لا يكفي لإطعام خمسة أفواه، ناهيك عن تكاليف علاجه، حيث ينقطع في أوقات كثيرة عن العمل البديل نظراً للانتكاسات النفسية التي يتعرض لها بين وقت وآخر.
إلا أن ما تقدّم ليس كل شيء بالنسبة إلى أنور، إذ يمكن أن يشعر المتحدث معه من خلال نبرات صوته المتحشرج ونظراته المنكسرة، أن ثمة تصدعاً كبيراً أصاب روحه، وبات يصعب ترميمه على المستوى البعيد.
حكاية معاناة أخرى، ضحيتها المعلمة (س. م.)، التي لم يكتف الزمن بالالتواءات التي ظهرت مؤخراً على جسدها، بل راح يخط في ذاكرتها ألماً يفوق حدود الاحتمال.
20 عاماً عملت خلالها معلمة في إحدى مديريات مدينة الحديدة، قبل أن تندلع الحرب ويصبح زوجها في قائمة المخفيين قسرياً، وهو العائل الوحيد الذي كان يعمل مديراً لإحدى المديريات في المحافظة.
وتروي عيون (س. م.) فصولاً مؤلمة من الوهن الذي يجتاح إليها، فالمرض أيضاً لم يعد يرى أن الحرب يمكن أن تكون عذراً جيداً يدعوه للتلاشي والاختفاء، إذ إن أبناءها الخمسة جمعيهم مصابون «بالتلاسيميا» إضافة إلى أمّها التي تمكث مقعدة طريحة الفراش وأختها التي ما زالت على مقاعد الدراسة. ووسط هذا كله، فجأة توقف راتبها الذي يمثل شريان حياة لكل هؤلاء.
لم تشفع لها سنوات خدمتها في العمل التربوي، لتكف عنها الأيام المريرة أذاها، بل أضافت إلى همومها هماً جديداً، انتقلت معه إلى مركز المحافظة (مدينة الحديدة) هرباً بما تبقى لها من الحياة ليستقر بها الحال في بيت مستأجر ومدرسة تبعد قرابة ثلاثة كيلومترات عن مقر سكنها.
تقول (س. م.) إنها تضطر للذهاب يوماً إلى المدرسة وتتغيب عنها اليوم الآخر لعدم قدرتها على دفع قيمة المواصلات، وأيضاً نتيجة الخجل الذي يكاد يقتلها بين زميلاتها اللواتي يتقاسمن معها حين تحضر، وجبة الإفطار التي لا تستطيع أن توفرها لنفسها.
استقر بها الحال أخيرا لتبيع «البخور» بالدّين في أوساط زميلاتها المعلمات، لكنهن لم يستطعن سداد قيمته بسبب انقطاع رواتبهن، وهو ما جعلها تلجأ إلى طرق أبواب البيوت لعلها تظفر بإحداهن لتشتري بضاعتها.
تسرد لنا المعلمة معاناتها، وتؤكد أنها أرهقت نفسياً لسبين: أحدهما يتعلق بالأوضاع المأسوية التي تعيشها، والسبب الآخر يتعلق بالجانب الأخلاقي بوصفها معلمة باتت ترى جيلاً من الطلاب يفقد مستقبله ولا تستطيع أن تحرك ساكنا إزاء ذلك وهي التي لطالما كانت على رأس المعلمات الملتزمات بأداء كامل حصصهن الدراسية.
وفي الجانب الآخر من العملية التعليمية في اليمن، يقف التلامذة بين سندان الفقر الذي أنهك أسرهم ومطرقة المستقبل الذي يمضي ولا شيء معه يلوح لهم في الأفق.
أصيب التعليم بالشلل منذ اللحظات الأولى للحرب، تارة بسب انقطاع الطلاب عن الدراسة جراء تدهور الأوضاع الأمنية، وتارة أخرى بسبب العوز والفقر الذي لم يستثن أحداً من براثنه القاتلة.
وفي بلد تنتشر فيه رقعة الأمية بشكل كبير، زاد عدد الأطفال غير الملتحقين بالمدراس من 1.6 مليون طفل إلى نحو مليونين، بحسب أرقام أوردها أحدث تقرير رسمي لمنظمة «يونيسيف».
بألم شديد، يتحدّث أحمد غلاب (وكيل إحدى مدارس الحديدة)، عن التدهور المروع الذي شهدته حياة زملائه المعلمين في مدرسته والذين اضطر بعضهم إلى العمل في مجال البناء بالأجر اليومي.
ويشير الوكيل إلى عدد من القضايا المتعلقة بالدائنين والتي أدت إلى اقتياد بعض المعلمين إلى أقسام الشرطة، على رغم العمر الطويل الذي أفنوه في تعليم الأجيال. ويقول إن نصف الراتب الذي يتم صرفه بالتزامن مع بعض المناسبات الدينية كشهر رمضان أو الأعياد «لا يفي بأدنى احتياجات المعلم وأسرته إضافة إلى كونه يفتح شهية الدائنين لمضاعفة الملاحقات لدى أقسام الشرطة ليس أكثر».
ويأمل غلاب بأن تفي الجهات المختصة بالتزاماتها تجاه المعلمين وتقوم بتوفير بدائل لتغطية رواتبهم حفاظاً على استمرار العملية التعلمية على نحو سليم.
وأمام هذا الوضع المأسوي الذي بات يسحق المعلمين في محافظة الحديدة ومعها القسم الأكثر من المحافظات اليمنية، تقول ممثلة «يونسيف» في اليمن ميريتشيل ريلاينو: «يواجه جيل كامل من الأطفال في اليمن مستقبلاً غامضاً بسبب محدودية أو عدم إمكان حصولهم على التعليم». وتضيف: «حتى أولئك الذي ينتظمون في المدارس لا يحصلون على التعليم الجيد».
ويكشف أحدث تقرير لـ «يونسيف» عن الأوضاع التعليمية في اليمن، أرقاماً مخيفة، فهناك أكثر من 2500 مدرسة باتت خارج الخدمة، إذ إن ما يقارب الـ66 في المئة من المدارس تضررت بسبب العنف، فيما أغلق 27 في المئة منها أبوابه، في حين أن 7 في المئة تحوّل إلى ملاجئ لإيواء الأسر النازحة أو بات يستخدم من قبل الميليشيات المسلحة.
ويذكر التقرير الأممي أن هناك شريحة كبيرة تقدّر بنحو نصف مليون طالب يمني تسربوا من المقاعد الدراسية منذ تفاقم الصراع في 2015. ويشير التقرير أيضاً إلى أنه لم يتم صرف رواتب الكوادر التعليمية العاملة في ثلاثة أرباع المدارس الحكومية منذ أكثر من عام، ما يجعل تعليم قرابة 4.5 مليون طفل على المحك.
ويؤكد أن حوالى 2419 طالباً تم تجنيدهم للقتال، في حين انتشر الزواج المبكر للفتيات تحت سن الثامنة عشرة على نحو غير مسبوق.
وأياً تكن الأسباب التي تقف خلف المآسي التي تمس حقوق أساتذة اليمن وتلامذته، فإن الخلاصة تشي بأن التبعات الوخيمة ستلقي بظلالها القاتمة على مستقبل الطلاب فكراً وسلوكاً على مدى أجيال. | |
|