في الشهر الثامن من عمرها، يبدو المشهد الذي تقدمه الثورة السورية مهيباً ومثيراً للكثير من المخاوف. فهذه الثورة، التي ألهبت في بداياتها مشاعر الكثير من "النخب" التي تُحسب تقليدياً على "المعارضة"، باتت تطرح مجموعةً من القضايا والأسئلة التي يبدو أن ثقافتنا الكتابية السائدة باتت عاجزة عن الإجابة عنها.
لعل الشكل الذي تتخذه الاحتجاجات، في هذه الأيام، هو من أكبر التحديات التي تواجه تلك الثقافة، وتبيّن قصور أدواتها المعرفية، وعجزها عن استيعاب الظواهر الاجتماعية المحلية وتحليلها من الداخل. فبينما يتمايل الثوار السوريون ويرقصون على إيقاع أهازيج ثورتهم، ويحوّلون تظاهراتهم طقساً احتفالياً يصعب نسبه إلى أي فولكلور سوري معروف، مما يثير شهية أي باحث أنثروبولوجي متحمس، يشكو الكثير من الكتّاب السوريين من "النزعة الدينية" التي سيطرت على الثورة السورية، وباتت تنذر بتحويلها ثورة ذات اتجاه سلفي يهدد المجتمع السوري بويلات خطيرة، ليس أقلها الحرب الأهلية وتفكك الكيان السوري!
تنبثق هذه المخاوف من اعتبارات عدة، منها ازدياد تمركز النشاط الثوري ضمن المجتمعات الأهلية "بميولها المذهبية"، وطغيان الشعارات ذات الطابع "الديني" على التظاهرات، مثل "يالله مالنا غيرك يا الله"، و"هي... يالله... ما بنركع إلا لـ الله"، وتعاظم تمحور تلك التظاهرات حول المساجد والجوامع. لنتفحص إذاً بعض هذه المفاهيم، فربما قادنا البحث في "المجتمعات الأهلية" و"الدين" و"الله" و"الجامع"، إلى تقديم مقاربة أكثر مطابقةً وأقل تعالماً مما تقدمه مقاربات ثقافتنا السائدة.
¶¶¶
في مجتمعات دمرت سلطاتها القمعية كل المؤسسات التي تؤمّن إمكان التجمع والتجمهر على أساس حرّ ومدني، أصبح "الجامع" (وهو من آخر المواضع التي تؤمّن للناس الاجتماع ببعض الحرية) أحد أهم مرتكزات الهيمنة السلطوية، حيث يجلس العشرات من المصلين مطأطئي الرؤوس تحت الخطيب الذي يلهج بالدعاء والثناء على "سيادة الرئيس" أو "الراعي وولي الأمر"، ضمن جو طقوسي رتيب، يكرِّس، بسلطة الدين وقدسيته، حالة الخضوع الاجتماعي. وعندما آن أوان الانفجار الاجتماعي الكبير الذي جسّدته الثورة السورية، لم يجد السوريون مكاناً يستطيعون الانطلاق منه سوى الجامع، على رغم تنظيمه السلطوي، حيث لم تقبل الكثير من المجتمعات الأهلية أن تبقى المؤسسة الأكثر التصاقاً بحياتها الاجتماعية الأهلية خاضعةً لسيطرة السلطة. هنا احدث السوريون خلخلةً خطيرة في الوظيفة السياسية- الدينية للمساجد، التي حملتها منذ بداية العصر الأموي حتى يومنا هذا، وكسروا جوّها الطقوسي الإخضاعي الرتيب، من دون الالتفات إلى جو الخشوع والإجلال الذي تفترضه قدسيتها وفق المفهوم الديني التقليدي. فللمرة الأولى بتنا نرى المصلّين يقاطعون خطباءهم وأئمتهم وينتقدون كلامهم، بل ويتهجمون عليهم بقسوة ويُنزلونهم من على المنابر في حال ممارستهم دورهم التقليدي في الدعاية للسلطة ورموزها، ويملأون حرم المسجد بضوضائهم وصراخهم وهتافاتهم مع انطلاق التظاهرة. لم يعد هدف الكثير من روّاد المساجد الصلاة، بل صارت فرصة التحرك التي تقدمها الصلاة هاجسهم الأساسي. وكثيراً ما خرجت التظاهرات حتى قبل أن تؤدّى الصلاة، أو تحوّل الجامع ساحة معركة بين المتظاهرين ورجال الأمن.
لقد أصبح الجامع ميداناً للفاعلية الاجتماعية الحرة: حطّم قيوده بعدما انتزعه الناس من بين أنياب السلطة، وفقد وظيفته الدينية التقليدية ليكتسب وظيفة اجتماعية- سياسية ذات طابع ثوري. صار "آغورا" المجتمعات الأهلية التي تنطلق منها لتنظيم شأنها العام. وربما كان مشايخ السلطان محقّين في قولهم إن المتظاهرين قد "دنّسوا" المساجد، إذا نظرنا إليها وفق المنطق الديني "المشايخي" التقليدي، فما تشهده مساجد سوريا لا يتفق مع أي مفهوم متعارف عليه للتقاليد الدينية.
وبعدما حرر السوريون جامعهم، ومارسوا فيه للمرة الأولى فاعليتهم الاجتماعية الحرة التي قد لا تتفق في الضرورة مع مفاهيم مثقفينا الجاهزة عن المدنية والديموقراطية، قاموا بنقل تلك الفاعلية إلى خارج أسوار المساجد. جعلوا "الجامع" يمتد إلى الحارات والشوارع، ولكن ليس الجامع الديني التقليدي، بل جامع الناس الذين ينادون بالحرية: صفوف المصلّين صارت صفوف راقصين، الركوع والسجود صار اهتزازاً وتمايلاً على إيقاع أهازيج الثورة. "الله" المنتقم الجبار، الذي كان يؤبد زمن السلطة ويؤمّن الخضوع القدري لها، صار إلهاً شعبياً يستمد الثوار منه القوة والشجاعة في مواجهة آلة قتل لا ترحم. صار رجع صدى أصوات أولئك الناس الذين تركهم العالم أجمع يموتون من دون أن يحرك ساكناً. استطاعت الجماعة الأهلية السورية أن تعيد ابتكار آلهتها، وأن تكوِّن نفسها من جديد، على صورة أجساد متلاحمة تواجه سلطة تسعى لإخضاع تلك الأجساد بالعنف المحض.
إن إعادة التكوين تلك، في مواجهة عنف السلطة، لا يمكن اختزالها بالعامل الديني وحده، فالدين الشعبي الذي يختلف كثيراً عن دين المشايخ ودين الإسلام السياسي، ليس إلا عنصراً واحداً بين عديد العناصر التي تؤسس بها الجماعة الأهلية نفسها من جديد، وهي عناصر لا يمكن فصلها بعضها عن بعضها الآخر بشكل ميكانيكي؛ تشمل إيديولوجيا التحرر المحدثة التي كثفت عوامل الاحتجاج الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في مقولة واحدة هي "الحرية"، والثقافة الشفوية الموروثة التي يشكل الدين أحد مكوّناتها، وليس المكوّن الوحيد، والذاكرة الجمعية، والتلاحم الاجتماعي والمعنوي والجسدي بين أبناء الجماعة، واستعادة الثقة بالذات الفردية والجماعية، مع نزعة فدائية يلخّصها شعار "الموت ولا المذلة". وربما كان "الله" هو المعادل الرمزي لهذا المزيج من العناصر، الله الذي يحضر بقوة في تلك الاحتفالية الطقسية التي تحولت إليها التظاهرة السورية، والتي تُذكِّرنا بالاحتفالات الوثنية التي تقيمها الجماعات البدائية في مواجهة خطر الموت والفناء، كما لاحظت بألمعية الكاتبة السورية سمر يزبك في مقالها "الظاهر والملتبس في الهتاف الثوري"، جريدة "الحياة"، 27\9\2011.
وعلى رغم انكفاء الجماعة الأهلية السورية على ذاتها في سياق عملية إعادة التكوين تلك، إلا أنها للمفارقة صارت أكثر انفتاحاً على الآخر الثوري وليس السلطوي، وأشد قدرة على التواصل وتبادل الأفكار والآراء مع غيرها من الجماعات والأفراد المشاركين في الثورة، وأكثر تسامحاً مع المختلف معها في الثقافة وأسلوب الحياة، ما دام يشاركها الانخراط في مواجهة عنف النظام. باختصار، لم ترتكس الجماعة الأهلية السورية إلى شروط أكثر تخلفاً وتطرفاً، بل أعادت ابتكار ذاتها ضمن شروط جديدة، لا تشابه كوابيس مثقفينا عن السلفية والتطرف الديني.
هذه الجماعات الأهلية لن تكون عاملاً في تفكك الكيان الوطني، حتى لو اضطرت إلى حمل السلاح، بل ربما ستكون الوحدات الأساسية التي تحافظ على تماسكه وسط الفوضى الكبيرة التي يشيعها النظام، بعدما انطلقت إلى مساحة العمل السياسي الوطني حاملةً إيديولوجيا وطنية للتحرر، تؤكد أن أي مشروع تفتيتي سيصيب مصالح الجماعة الحيوية في الصميم. وهي لن تسقط في فخ الإسلام السياسي بشكل حتمي إذا استطاعت النخب الوطنية والعلمانية تفهُّم تطلعاتها ونبض احتجاجها، والعمل على تطوير الجانب الإيجابي من حراكها وإيديولوجيتها، وهذا لن يكون إلا بالقطيعة مع الثقافة الكتابية السائدة، وتجاوزها تجاوزاً نقدياً.
كاتب سوري |