التاريخ: تشرين الثاني ١٩, ٢٠١١
المصدر: ملحق النهار الثقافي
هواجس الأقلية - علي حرب

من أين يأتي الخطر على الأقليات المسيحية في العالم العربي؟ مناسبة السؤال ما صدر عن البطريرك الماروني من آراء ومواقف عبّر فيها عن مخاوفه على مصائر الاقليات، على وقع ما تشهده بعض البلدان العربية، ذات التركيب الطائفي المتعدّد، بعد اندلاع الثورات، من انفجارات وانهيارات وتحولات أدّت الى سقوط أنظمتها السياسية. عزّز المخاوف صعود القوى الاسلامية، كما حصل في تونس، بعدما فاز "حزب النهضة" الاسلامي في انتخابات المجلس التأسيسي.


إذا كانت قراءة الراعي للأحداث أثارت الكثير من السجالات والردود أو الالتباسات والتأويلات، فما يُخشى منه، أن تعالَج المسألة بصورة تعيدنا الى عصر الملل والطوائف، ولكن على النحو الأسوأ والأخطر، كما هو شأن كل رجوع الى الماضي او استحضار للذاكرة، من دون تحويل خلاّق، اذ يأتي صادماً بقدر ما يكون مرعباً.
من هنا ثمة حاجة الى اعادة التفكير في المسألة، على غير صعيد، كي لا نقع في التبسيط والحجب والتمويه.


أولاً، على الصعيد اللبناني، حيث أثيرت القضية. ما اراه أن مشكلة لبنان الآن، ليست مشكلة أقلية مسيحية مضطهدة او خائفة وأكثرية إسلامية غالبة. معضلته الكبرى هي ازدواج السلطة والأمن والقرار، بما يشبه وجود دولتين، في بلد واحد، وكما هي حال لبنان منذ عقود، أي مذ أصبح ارض المقاومة والممانعة من جانب دول وقوى واحزاب وحركات من داخل وخارج، استضعفت البلد وانتهكت مجاله وقوانينه، لتحوله "ساحة" مفتوحة وسائبة لمن شاء أن يلعب على "ساحته"، بتصدير ثورته او عقيدته، او بالهرب من مشكلته، الأمر الذي هدد وحدة لبنان وأفقده استقلاليته وحمّله ما لا طاقة له به.


ثانياً، على الصعيد العربي. ما يمكن قوله هنا ان الدول العربية التي نخشى على الاقليات من انهيارها، والتي رفعت شعار القومية والوحدة، قد دمرت أساساً الفكرة العربية الجامعة. إذ هي أدارت الشؤون بعقل فئوي، طائفي، قبلي، أمني، مافيوي، تعامل مع الناس بوصفهم أقل من رعايا، أي مجرّد عبيد أو أرقام في قطيع، بقدر ما تعامل مع المصالح العمومية والمشتركة، بوصفها ملكية خاصة. مثل هذا العقل المفخّخ هو أعجز من أن يوحّد حيّاً في مدينة، الا على سبيل القهر والترهيب والاخضاع. ولذا، فقد انتج وحدةً ملغّمة، كانت تنتظر ساعة الانفجار، كما تكشّفت الاوضاع الهشّة والملفّقة، بعد اندلاع الثورات العربية.


هكذا، فإن الدول العربية ذات الايديولوجيات الوحدوية والتقدّمية والتحرّرية، بدلا من ان تعمل على تطوير الانظمة الديموقراطية الليبيرالية، الموروثة من عهود الاستعمار، والتي كانت تتيح للأقليات أن تعيش باطمئنان وأن تمارس حريتها، وربما ازدهارها، قد أطاحت المكسب الديموقراطي الحداثي، بقدر ما خرّبت فكرة الوحدة التي أُقيمت على المماهاة التامة وعلى اختزال التنوّع وإقصاء المختلف والمعارض، تحت صورة زعيم أوحد او مبدأ واحد ووحيد. مثل هذه الوحدة لا تولّد سوى الفقر والاستبداد والعماء، وبالعكس. فالوحدة الناجحة والغنيّة والفعّالة، هي الوحدة المركّبة، الديناميكية، المرنة، المتحوِّلة.


هذا مآل كل وحدة وطنية او سياسية تدار بعقل احادي، شمولي، امني، يقوم على عبادة الشخصية واحتقار الناس، كما جرى في بلد متعدد الطوائف كيوغوسلافيا: قيام اتحاد، مفخخ، ملفق، فشل في صنع صيغة جامعة تبني نظاماً مركّباً للوصل والفصل يجد معه الافراد والجماعات أن من مصالحهم الخاصة انتماءهم الى الدولة بوصفها الأمر الجامع، والحرص على المصالح العمومية وتنميتها. لذا كانت النتيجة انفجار يوغوسلافيا، بعد زوال القبضة الأمنية والارهاب المخابراتي، لتقع في أتون الحرب الأهلية البربرية.
من هنا لا تجد مشكلة الاقليات حلاً لها، لا بالقوقعة الطائفية ولا بالدولة الامنية. بالعكس، فالمعالجة تبدأ بالفكاك من هذه الثنائية الخانقة، بالتدرب على الادارة الديموقراطية والسلطة التداولية، والانخراط في بناء مجتمعات مفتوحة، ليبيرالية مدنية.


ثالثاً، على الصعيد العالمي، حيث نجد اليوم، عند من يحسن قراءة التحولات، أن ثنائية الاقلية والاكثرية أخذت تفقد صدقيتها في عصر الاعتماد المتبادل، حيث التشابك في المصالح والمصائر، وحيث تزداد حركة الانتقال من مكان الى آخر، وتتسع مساحات التواصل ودوائرها بين البشر، سواء على المستوى الوطني او الكوكبي. ليست الهواتف وحدها هي التي أمست "نقّالة" ومعولمة، بل ايضاً الاعمال والأموال والاشخاص، فضلاً عن المعلومات والرموز والأفكار.


لذا نجد ان الجماعات والقوى المتصارعة التي لا تتقن لغة التداول والاعتراف المتبادل، سواء أكانت في موقع الاقلية ام الاكثرية، لا تحسن سوى انتهاك مبادئها وانتاج مآزقها، لكن تتواطأ مع من تعتبره خصمها او ضدها الذي يعتدي على حقوقها او يضر بمصالحها.
هذا ما يصنعه مفهوم الاقلية الذي لا يضمن للطوائف حقوقها، او مكتسباتها، بل يطيحها، لكي يولّد التمييز والاقصاء والاضطهاد. اذ يجعلها اسيرة مخاوفها وهواجسها، بقدر ما يجعلها رهينة الصراعات وعلاقات القوة بينها وبين الطوائف الاخرى. ولا فكاك من هذا المأزق، الا بخروج الواحد من قوقعته الطائفية، لكي يتعامل مع نفسه كمواطن في دولة، ويمارس هوية عابرة للأطر والطائفية والعائلية.


لمزيد من الإيضاح، سأتوقف عند المثال الفرنسي. فمن المعلوم ان فرنسا عانت حروباً أهلية وحشية بين الكاثوليك (الأكثرية) والبروتستانت (الاقلية) لم تجد حلاً لها إلا بعد حدوث الثورات السياسية والفكرية والحقوقية التي أدت الى نشوء النظام الجمهوري والحكم الديموقراطي والمجتمع المدني، في ظل دولة علمانية، تشكّل النصاب الجامع وتمثّل المشروعية العليا والمصدر الوحيد للتشريع، وذلك حيث كل واحد ينظر الى غيره بوصفه شريكاً له في الوطن أو زميلاً في المهنة أو جاراً في الحي أو رفيقاً في الحزب أو صديقاً في النادي. بل نظيراً في الإنسانية.


مثل هذه الوضعية هي التي تتيح للواحد أن يمارس هوية مركّبة، متعددة الوجوه والصور والابعاد، كما يمارس حريته في التعبير عن رأيه او معتقده او موقفه، الفلسفي او الديني او السياسي، في الفضاء العمومي عبر المناقشات العلنية والمداولات العقلانية النقدية. اما الفرائض والطقوس والرموز الخاصة بالطوائف، فإنها تمارَس في البيوت ودور العبادة والمؤسسات الخاصة.


لا أعتقد أن الكاثوليكي الفرنسي أو من يعتبر نفسه كذلك، يشعر اليوم بأنه ينتسب الى أكثرية، كما لا يشعر البروتستانتي بأنه ينتمي الى أقلية، لأن شعور الانتماء الى فرنسا الدولة والوطن والبلد هو الغالب. هل ثمة تمييز ضد المسلمين الفرنسيين الذين لا يعامَلون كمواطنين، كما يعامَل سواهم؟ المسؤولية مشتركة، لأن المسلم الفرنسي يتعامل مع نفسه كمسلم أولاً وكفرنسي ثانياً، كما هي حال الأكثرين في تعاملهم مع هويتهم الوطنية.


من هنا فإن المطالبة بارتداء المسلمة الفرنسية الحجاب، في المدارس بنوع خاص، انما يحدث شرخاً في المجتمع الفرنسي يعيده الى الوراء، اذ هو ينسف مبدأ المواطنة المدنية، الذي يعدّ مكسباً عصرياً تنويرياً، لمصلحة الشريعة والمؤسسة الدينية، مما يعرقل عمل الدولة الحديثة التي لا يقوم دورها على معاداة الدين، كما يظن، بل هي التي تحمي الجميع بقدر ما تتجاوزهم، وتردعهم بعضهم عن بعض بقدر ما تصون حقوقهم، وتتيح لهم التعبير عن خصوصياتهم، ولكن ليس على حساب الأنظمة والقوانين.
في ضوء هذا الفهم الوسطي والمركّب والجامع والمحايد، ولكن على النحو الإيجابي، لدور الدولة بأنظمتها ومؤسساتها وفضائها العمومي، لا تعود المسألة مسألة أقلية تتحكم بأكثرية، أو أكثرية تحاول إلغاء الأقلية، بل كيف يدار التعدد والتنوع والاختلاف؟


إن المجتمعات ذات التكوين المتعدد، تحتاج إلى الاشتغال على خصوصياتها بتحويلها هويات عابرة للاطر التقليدية والعصبيات الاهلية، وذلك ببناء ما يحتاج اليه استقرار الاوطان وتقدم المجتمعات من ابتكار وتشكيل أو تطوير اللغة الجامعة والمساحة المشتركة والوحدات المركّبة والفضاءات العمومية التنويرية التي تتيح التعايش بين مَن هم مختلفون من حيث نماذجهم وانماطهم وهوياتهم. هذا وحده، يتيح للخصوصيات ان تتجلى وتمارس حضورها وفاعليّتها. هذا ما فعله المسيحيون الذين تصدّروا الواجهة ولعبوا دور الريادة في عصر النهضة والاستنارة في العالم العربي.


أما أن تتمترس الطوائف وراء هوياتها الدينية وحقوقها الثقافية، فمآل ذلك تحويل الخصوصيات عصبيات مغلقة تمزّق المجتمعات وتهدّد وحدة الأوطان بنزاعاتها وحروبها، كما يجري في غير بلد عربي، وكما تشهد حروب الالهة والنصوص والجوامع والكنائس. هذا مع ان حروب الجوامع بين المسلمين هي أشرس واشد فتكاً من حروب الجوامع والكنائس بين المسلمين والمسحيين.


من هنا فإن الإساءة الى القيم والرموز الدينية تأتي، في الدرجة الأولى، من الذين يقدّسونها ويدافعون عنها، فهم الذين يدمّرون قيم التقوى والتعارف والتواصل والتراحم، بفتاواهم التكفيرية ومنظّماتهم الإرهابية التي تنشر الرعب وتزرع الخراب وتعتدي على دور العبادة في غير بلد عربي. هكذا، فالذي اعتدى على دار للسينما أو على قناة فضائية في تونس، بحجة الدفاع عن المقدسات، هو الذي يعتدي على دور العبادة في العراق وفي مصر، وليس المستقل عن المؤسسات الدينية أو الخارج عليها.


خلاصة القول ان مشكلة الخصوصيات والأقليات والهويات، إنما تكمن في الدرجة الأولى في خطابات أهلها وفي ما يتداولونه من المفاهيم كالأصل والجوهر والنقاء والاصطفاء والثبات والتسامح، وسواها من المقولات التي تترجم بأضدادها وترتدّ على أصحابها، لأن معالجة القضايا تحتاج الى عدة فكرية جديدة من مفرداتها: الاعتراف، التجاوز، التوسط، التداول، التشارك، التبادل. ولا انسى "التحول". فمن أكثر الأوهام ادعاء الواحد الثبات على مبادئه، لأنه لا وجود في الواقع، لما هو متغير. فإما أن يتغير الواحد بصورة سلبية، عقيمة، غير مجدية، وإما بالعكس، يتغير بصورة بناءة، راهنة، فعالة.