ترجع جل الأزمات المتفجرة في مصر لأكثر من تسعة أشهر مضت ولا تزال، كالفتنة الطائفية وآخر تجلياتها أحداث ماسبيرو، وحركات الإحتجاج الفئوية التى صارت يومية، بين كل الفئات، لعل أخطرها وآخرها صراع المحامين والقضاة حول قانون السلطة القضائية، ناهيك عن غياب الأمن وانتشار البلطجة على نطاق واسع، إلى غياب الخيال السياسي، وقصور الإدارة السياسية للبلاد إلى درجة صارت تكتفي معها بسلوك عامل اليومية الذي يرتب أموره يوماً بيوم، من دون بصيرة ممتدة، أو قدرة على التشوف وحساب ممكنات واحتمالات المستقبل. ويرجع ذلك بدوره إلى قلة المهارات السياسية للمجلس العسكري، على حسن نياته، وجسامة مسؤولياته. وإلى ضيق حيز التفويض الممنوح للحكومة، وربما غياب الحنكة السياسية التي تتفق وإدارة مرحلة انتقالية صعبة لبلد مأزوم، يعيش أهله ثورة توقعات متزايدة بعد ثورة سياسية أطاحت نظامه القديم، كما هو الأمر لدى رئيس الوزراء نفسه، على دماثة خلقه، وحُسن نياته.
في هذا السياق، وللخروج من النفق المظلم، تبدو المهمة الأولى التي يتوجب على مصر النهوض بها هي إعادة بناء سريعة لمركز قرارها السياسي، بحيث يمتلك الكفاءة والقدرة والخيال اللازم لإدارة البلاد، وتكون لديه الشرعية السياسية التي تمكنه من اتخاذ القرارت الصعبة والحاسمة. وتحديداً تحتاج مصر إلى شغل موقع رئاسة الجمهورية بأقصى سرعة ممكنة، من دون انتظار وضع الدستور الجديد، ويزيد من شرعية تلك المهمة أمور عدة أهمها:
أولا: أن ذلك المركز وحده هو القادر على أن يكون ملهماً للنظام السياسي، خصوصاً في حال اعتلاء رئيس يملك سمات رجل دولة، قادر على اتخاذ القرارات الصعبة، سواء على الصعيد الداخلي حيث الأزمات تتوالى على النحو المشهود سياسياً واقتصادياً، أو على الصعيد الخارجي حيث تحتاج مصر لإتخاذ مواقف ومبادرات إيجابية في الكثير من القضايا التي تخص العلاقة مع إسرائيل، أو ترتبط بحركة «الربيع العربي»، وخصوصاً في ما يتعلق بالموقف من الأزمة السورية، وطبيعة توجهات نظام الحكم الجديد في ليبيا، الجار الغربي اللصيق بمصر، والذى يتوقع أن يلعب أعضاء حلف الناتو دوراً مؤثراً في صوغها.
ثانيا: إن إجراء انتخابات رئاسية يبدو عملياً أسهل كثيراً، بالقياس إلى الإنتخابات البرلمانية، إذ لا تكتنفه تلك الصعوبات المثارة حيال هذه الأخيرة على منوال تقسيم الدوائر، أو الخلاف حول طريقة الإنتخاب بين نظام القائمة النسبية والنظام الفردي، أو إمكان مشاركة المصريين في الخارج. ناهيك عن أن التصويت في الإنتخابات الرئاسية يكون على المستوى القومي، وهو أمر يقلل تماماً من الصعوبات الأمنية المحيطة بها قياساً إلى نظيرتها البرلمانية والتي يثور فيها الصراع على مستوى المراكز والمحافظات، وتلتهب خلالها المعارك بين العشائر والعائلات، في وقت يبدو فيه جهاز الشرطة المصري غير مؤهل لتحمل تلك المسؤوليات الجسيمة قبل أن يعاد دعمه وتأهيله، وهو أمر ممكن فقط بعد اكتمال الإنتخابات الرئاسية، وشغل الفراغ السياسي الراهن في قمة السلطة، وما يلي ذلك من تولي حكومة قوية تكون مسؤولة أمام الرئيس المنتخب، وقادرة على الإضطلاع بمهامها الأساسية، وعلى رأسها فرض الأمن.
ثالثا: أن إجراء الإنتخابات البرلمانية في موعدها بعد شهر، وبفرض قدرة أجهزة الدولة على إتمامها بنجاح، لن يؤدي إلى شغل الفراغ السياسي الراهن لأسباب عدة: منها، أن البرلمان المقبل، وبدرجة احتمال شبه مؤكدة، لن يفرز قوة مهيمنة، ولن يفوز أي تيار سياسي بأكثر من ربع مقاعد المجلس، ما يعني العجز عن تشكيل حكومة غالبية متجانسة، والشروع في تشكيل حكومات ائتلافية. ومع غياب النضج السياسي والقدرة على التعايش والتنسيق بين التيارات والأحزاب المختلفة، ستكون هذه الإئتلافات رجراجة وغير مستقرة، وأن الخلافات ستدب وتستمر بين القوى السياسية داخل البرلمان والحكومة، ولن يكون ثمة فارق بين هذا الوضع وما نعيشه الآن سوى أن الخلافات الدائرة والإجتماعات المنصوبة ستنتقل من مقر أحد الأحزاب أو النقابات أو الشارع، إلى داخل قبة البرلمان، وما يعنيه ذلك من استمرار غياب مركز قرار سياسي، قادر على توجيه حركة النظام برمته. ومنها أيضا أن وجود حكومة منتخبة مع فراغ موقع الرئاسة، سيبقي على المجلس العسكري في موضع رأس الدولة، رغم أنف الحكومة والبرلمان، ومع بروز الإختلافات بين أجنحتها غير المتجانسة سيتنامى دور المجلس العسكري، وربما نظرت إليه تلك الأجنحة باعتباره حكماً بينها مع ما يفرضه ذلك من إزدواجية يمكن تجاوزها فقط حال إجراء انتخابات رئاسية، تأتي برئيس قوي «منتخب» وتشكيل حكومة قوية تكون مسؤولة أمامه هو حتى يتم إجراء الإنتخابات البرلمانية وتشكيل الحكومة التمثيلية.
قد يبدو هذا الطرح مثالياً نوعاً ما في ظل واقع يؤكد أننا على مشارف انتخابات برلمانية بعد أقل من الشهر. وأيضاً في ظل التوافق الذي أخذ يسود بين الناس، ولو ضد رغبة القوى الليبرالية، حول أولوية وضع الدستور على الإنتخابات الرئاسية، وهو توافق يصعب عكسه الآن عملياً، لحساب التوافق على أولوية الإنتخابات الرئاسية، وخصوصاً أن الإخوان المسلمين والتيار الديني عموماً يصر على الأجندة القائمة الآن. على أن تلك الصعوبات جميعها تبقى نظرية لا عملية، ويمكن تجاوزها بمجرد التفكير في المصلحة الوطنية لمصر، وتخلي جل أطراف النخبة السياسية عن أنانيتها وقصر نظرها، ومصالحها الضيقة، خصوصاً بعد ذلك الحدث الكارثي الذي قد يتكرر طالما ظلت مصر جسداً بلا رأس سياسي حقيقي وملهم، بل وقد يتفاقم في صور مختلفة مع إجراء الإنتخابات البرلمانية على قسوتها وشدتها قبل إعادة تأهيل الشرطة المصرية لتكون على مستوى الحدث الكبير.
* كاتب مصري
|