التاريخ: تشرين الثاني ٩, ٢٠١١
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
عن الاعتراض الشيعي وحركة 14 آذار كحالة سياسية - سعود المولى

السبب في فشل الاعتراض الشيعي يعود برأيي إلى العقلية الخاطئة (خصوصاً لدى الحريرية) في التعامل مع الشيعة للاستغلال الموسمي، أي الاستخدام في المناسبات والمهرجانات في وجه الخصوم وليس كشريك في الوطن له كامل الحقوق وعليه الواجبات نفسها.

حين نتكلم عن 14 آذار فلا نقصد الحركة الجماهيرية الكبرى التي كان لنا شرف المشاركة فيها والدفاع عنها، وما زلنا من روادها، طالما كانت عناوينها الحقيقة والعدالة والحرية والكرامة لجميع اللبنانيين. انما نقصد الحالة السياسية التي تحمل هذا الاسم وخصوصاً الحريرية السياسية القائدة لهذا لتجمع فهي التي تعاطت مباشرة مع المسألة الشيعية؛وذلك على عكس الباقين من قيادة 14 آذار الذين إما لم يحاولوا أصلاً مقاربة الجمهور الشيعي أي مقاربة ذات معنى؛ وإما كانت لهم روابط وعلاقات مع مفكرين وناشطين شيعة فلم يستثمروها في غير كتابة المقالات والبيانات المعبرة عن موقف حالة 14 آذار من الأحداث السياسية.


أما المقاربة الحريرية للمسألة الشيعية فقد كانت مستنسخة عن مقاربة الشيعية السياسية الحاكمة، للتيارات السنية الحليفة لها، أي على اعتبار عاملَيْ المال والوجاهة الفارغة. وبالتالي فقد قامت على الاستتباع والاستخدام من جهة وعلى الاسترزاق من الجهة الاخرى. وليس المجال هنا لاستعراض التاريخ والأسماء... إنما اللبيب من الإشارة يفهم...
ولم يكن الامر ليحتاج إلى عجائب ومعجزات لإيجاد لغة سليمة لمقاربة الهمّ الشيعي (الذي هو الهمّ الوطني العام نفسه). فالشيعة ليسوا ولم يكونوا خارج هموم بقية اللبنانيين، وهم كانوا وما زالوا لا يطلبون شيئاً آخر غير الدولة والمشروع الوطني الديموقراطي والبرنامج العملي للوصول إلى تحقيق هذا المشروع.


والسبب في فشل الاعتراض الشيعي يعود برأيي إلى العقلية الخاطئة في التعامل مع الشيعة (خصوصاً لدى الحريرية) للاستغلال الموسمي، أي الاستخدام في المناسبات والمهرجانات في وجه الخصوم وليس كشريك في الوطن له كامل الحقوق وعليه الواجبات نفسها.
إن طريقة مخاطبة المواطنين الشيعة وكأنها رد فعل على محاولات "حزب الله" لاختراق الطوائف الأخرى، كانت وستبقى موجودة، طالما أن الانقسام بين 8 و14 هو انقسام سنّي ـ شيعي يرفده انقسام ماروني. ماروني...
والحال ان المطلوب فقط هو التعامل مع الشيعة كشركاء وليس كأتباع أو كملحقين بمركب يقوده غيرهم في اتجاهات لا يعرفون مسارها ولا مصيرها.


لقد كان الشيعة أول من حمل لواء الحق والعدل والمساواة والكرامة للجميع وبين الجميع، ولواء الدولة المدنية المتوازنة القوية العادلة، وحتى العام 2001 (تاريخ وفاة الشيخ محمد مهدي شمس الدين) لم يستطع "حزب الله" ولا "حركة أمل" السيطرة على الطائفة الشيعية. وكان المطلوب من يومها (أي من العام 1991 وحتى العام 2001) محاولة بناء الدولة وليس تسليمها لميليشيات الفساد والغلبة. اليوم لم يعد ينفع التبشير بالدولة بل كان ينبغي ممارسة فعل الدولة حين كان ذلك ممكناً. وهذا ما لم تقم به القيادة الحريرية للأسف، حيث أنها ليس فقط أشركت "أمل" و"حزب الله" في قيادة الدولة وسمحت لهما بالتعطيل المستمر للدولة (والأمر بدأ منذ الإنقلاب على إتفاق الطائف عام 1991) بل إنها كرست عرفاً لم يحصل من قبل في تاريخ تشكيل الحكومات والإدارات وهو المحاصصة مع هذين التنظيمين وعلى حساب الكفاءات الشيعية التي لم يعد لديها من باب لدخول الوظيفة العامة إلا الاستزلام للتنظيمين (إلا من رحم ربك طبعاً وظلّ متمسكاً باستقلاليته الفكرية والمادية عنهما كما عن غيرهما).
وفي لحظة 14 آذار المجيدة جمهور الطائفة الشيعية المدني لم يكن غائباً بل كان موجوداً وممثلاً حتى في تركيبة البريستول، وقبلها في المنبر الديموقراطي الذي جمع مئات المثقفين والكوادر المهنية المدنية جلهم من الشيعة...


أما اليوم فلم يعد ممكناً فصل الطائفة الشيعية عن قياداتها التي تكرّست بمباركة من خصومها منذ أول حكومة بعد الطائف وحتى آخر حكومة حريرية، ومروراً بالحلف الرباعي الشهير. ولذلك لن ينفع الكلام اليوم عن الفصل بين مرتكبي الجريمة والحزب أو الطائفة. فالطائفة اليوم هي الحزب وهي الحركة في تضامن عصبوي طائفي مذهبي جاهلي، على قاعدة أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. وقد تفاقمت مع هذا الحلف العصبوي عصبيات الطوائف الأخرى المتصاعدة من حول الشيعة في لبنان والعالم العربي، والتي تحمل تهديداً وجودياً للطائفة...


وليس مقنعاً اليوم أبداً للمواطنين الشيعة (وهو لم يكن مقنعاً أصلاً) القول إن المقاومة هي مهمة تقع على عاتق جميع اللبنانيين، وإن السلاح الفئوي يقوّض المقاومة والدولة، لأن الحريرية تعاملت منذ العام 1992على أساس تكريس احتكار "حزب الله" للمقاومة، وهي لا تزال إلى اليوم تخشى مقاربة هذا الموضوع خارج إطار الكليشيهات الفارغة. كان ينبغي إطلاق مقاومة وطنية يوم كان ذلك ممكناً (وشبعا والعرقوب فيها من السنة والحريريين ما يكفي) وعدم السماح باحتكار حزب واحد للمقاومة، بل وحتى إشراك الكتائب والقوات في هذه المقاومة... أما اليوم فلم يعد هناك مقاومة أصلاً حتى نتكلم عن مقاومة (خاصة مع القرار 1701). فمع زوال الاحتلال عام 2000، زال مبرر وجود المقاومة التي هي كما نعرف وتعرفون عبوة ناسفة وكلاشينكوف وآربي جي وانتفاضات شعبية ومقاومة مدنية شعبية شاملة. ما هو موجود اليوم هو جيش نظامي طائفي مسلح بأحدث وأضخم أنواع الأسلحة والمعدات والتجهيزات والمقاتلين والخبرات القتالية.


إنه واحد من أقوى جيوش الشرق الأوسط يملك 50 ألف صاروخ (على الأقل) وعشرات آلاف الجنود والضباط. أي أنه أقوى من الجيش اللبناني من حيث الانضباط والتماسك والتسليح والتدريب والخبرة. وقيادة أركان عملياته هي في طهران وليس في بيروت. الكلام الجدّي يكون بسحب شعار المقاومة من التداول وبطرح كيفية الاستفادة من هذه القوة العسكرية للدفاع عن لبنان.
أصلاً حين قبل "حزب الله" بالحديث عن استراتيجية دفاعية، فإن ذلك كان يعني تسليمه بأنه لم يعد مقاومة. فالاستراتيجية الدفاعية هي شأن من شؤون الدولة التي تمسك وحدها قرار الحرب والسلم مع إمكان التسليم بوجود قوى عسكرية مسلحة (ميليشيا شعبية. حرس حدود) تكون بإمرة غرفة عمليات يقودها الجيش ويحكمها القرار السياسي السيادي للحكومة اللبنانية.وهذا ما طرحه السيد موسى الصدر وما كان سبباً لاختطافه وقتله، على ما نذكر وتذكرون...


أما الدولة المدنية التي دعا اليها الصدر وشمس الدين فهي لم تبصر النور للأسف رغم مرور عقود على الدعوة التي أطلقاها والتي أطلقها أيضاً الشهيد كمال جنبلاط في برنامج الأحزاب التقدمية للاصلاح السياسي. والدولة اللبنانية القائمة لم تكن بالنسبة للشيعي سوى دولة الجباية والقمع. وهي لا تزال تقدم نفسها بهذا العنوان وحده. فمناطق البقاع والضاحية والجنوب ليس فقط لا تعرف معنى الدولة الحاضنة والراعية إنما هي لم تر منها على مر العقود غير الجباية المالية والفساد والاستزلام والقمع الرهيب عند أدنى مخالفة لأن المركز تعامل ويتعامل مع أهل الاطراف على أنهم ليسوا من البشر!!! فكيف نقنع هذا الشيعي (الهندي الأحمر) بالدولة والسيادة والدستور؟؟


إن استعادة الرأي العام الشيعي الى حضن مشروع الاستقلال والسيادة والدستور والدولة الواحدة الجامعة يحصل، حين يكون هناك مشروع فعلي لبناء دولة سيدة حرة مستقلة عادلة متوازنة جامعة مانعة؛ ويكون بالإمكان تحقيق هذا المشروع بطرح برنامج مرحلي ديموقراطي وطني واضح ومباشر يؤدي إلى بناء أحزاب وطنية مدنية حقيقية. سيأخذ الأمر وقتاً طويلاً وهو مرهون بحدوث تغييرات إقليمية (في ايران وسوريا بالطبع).فنحن ندرك انه لا يمكن حصول تغييرات في وضع الطوائف في لبنان من دون تغيرات خارجية تصيب معادلة الغلبة والاستقواء وتجعل اللبنانيين يسلمون بالاتفاق الداخلي. هكذا حدث يوم نظام القائمقاميتين، ثم نظام المتصرفية، ثم إعلان دولة لبنان الكبير، فالإستقلال والجلاء، فنظام 1958 الشهابي، وصولاً إلى المثل الأشهر: إتفاق الطائف.


نعم لم تستطع الأصوات الشيعية الخارجة عن طاعة "أمل" و"حزب الله" تشكيل صوت مؤثر داخل الطائفة وفي لبنان عموماً، وذلك لأسباب لا تتحمل هي وحدها مسؤوليتها بل يتحملها أساساً سياسة الحريرية و14 آذار تجاهها... وهذه الأصوات لن تستطيع اليوم أبداً تشكيل قوة وازنة لأن التكفير والتخوين سلاح فعّال يملكه "حزب الله" الذي يُصدر الفتاوى بكفر وخيانة الرؤساء رفسنجاني وخاتمي وموسوي وكروبي، الذين حكم كل واحد منهم إيران حوالى 8 سنوات على الأقل، وخدموا الثورة منذ أكثر من 40 سنة. فإذا كان أشخاص بهذا المستوى (رفاق الخميني في قيادة الثورة ثم قيادة الدولة) هم اليوم خونة بالنسبة إلى "حزب الله" وجمهور الطائفة، فما بالك بكمشة شباب شيعة في لبنان؟ فضلاً عن أن الحريرية و14 آذار لم تعط هذه الأصوات أي إمكانية لتعزيز وضعها في الحكم والإدارة والمؤسسات حين كانت الحريرية في السلطة (خصوصاً قبل 2005 أي تلك المرحلة من 1992 وحتى 2004 والتي أسست لما نحن فيه)، فكيف اليوم؟ هذا ناهيك عن أن بقية الطوائف مستنفرة هي أيضاً خلف قياداتها ومربوطة بها ربط القطيع.


وهذا الانقسام العمودي في البلاد لن يسمح لأي صوت شيعي بأن يكون مؤثراً ما لم يكن هناك برنامج عمل وطني ديموقراطي مدني. وليس من اللائق اليوم القول بضم بعض الشيعة إلى قيادة 14 آذار. صح النوم يا رفاق. اليوم جنبلاط والكتائب والتجدد الديموقراطي وغيرهم خرجوا من 14 آذار. ما هو موجود هو روح حركة 14 آذار الجماهيرية، وهذه ليست ملكاً لأحد، هي ملك للتاريخ... والمطلوب عدم البكاء على أطلال التاريخ...بل التقدم بمبادرة جديدة تستعيد هذا التاريخ دون أن تظل أسيرته، وتؤسس للمستقبل بروح وثابة خلاقة شجاعة.


بعض الشيعة (وأنا منهم) كانوا في أساس انطلاقة حركة 14 آذار بمواقفهم ومقالاتهم وتضحياتهم، وذلك منذ العام 1992 تاريخ تهميش الموارنة عن الحياة السياسية الوطنية (الانتخابات المزورة ثم نفي العماد عون والرئيس الجميل وبعدها سجن الدكتور جعجع). منذ ذلك الوقت كتبنا وصرخنا وناضلنا من أجل الحق والعدل والحرية والمساواة والكرامة لجميع اللبنانيين. وتعرّضنا للقمع والارهاب داخل الطائفة وخارجها. وهذه المواقف أسست للحركة الوطنية الجماهيرية الكبرى في 14 آذار والتي لم تكن ممكنة لولا انضمام الرئيس الشهيد رفيق الحريري ومعه كل الطائفة السنية ووليد جنبلاط وكل الطائفة الدرزية إلى تيار السيادة والحرية والاستقلال، ثم لولا الجريمة الكبرى وما تلاها من جرائم. وكما ترون فإن الحركات الجماهيرية الكبرى في البلاد عصبها يا رفاق طوائف وليس مجتمعاً مدنياً أو أفراداً من المثقفين ضحوا ويضحون، مع احترامنا الشديد لكل التضحيات... فما العمل اليوم، إذن؟


المطلوب برأيي هو المباشرة في صياغة حركة سياسية جديدة وثقافة سياسية جديدة تقوم على أكتاف نخب شبابية جديدة وليس تكرار البيانات والتجمعات التي تحمل اسم المدنية. وهذا العمل الجبار ليس ممكناً بين ليلة وضحاها أو في خضم مواجهة طائفية وإقليمية ودولية حامية الوطيس كالتي نحن فيها. ما أنصح به اليوم هو التركيز على المشروع والبرنامج، أكثر من التركيز على إعادة إحياء الأشكال القديمة الموجودة أو تلميعها بإضافة وجوه سيتم استهلاكها سريعاً مثلما استُهلك غيرها من قبلها. وعلينا التخلّي عن عقلية الزكزكة والاستخدام التكتيكي وممارسات تشجيع الارتزاق التافه... لقد دفعنا كحركة اعتراض شيعي ثمناً كبيراً لهذه السياسات السخيفة الخرقاء. وقبل أن نسأل اليوم عن إدخال شيعة في 14 آذار، علينا أن نعيد الثقة والأمل إلى كل المواطنين، من خلال مشروع وطني ديموقراطي حقيقي يتسع للجميع وينتج قيادته الجديدة في الميدان وبشكل طبيعي. وفي
هذا فليتنافس المنتنافسون.

 

(استاذ جامعي)