اهل طرابلس (اللبنانية) اعطوا للعاصمة اكثر مما اخذوا خصوصا على صعيد الوظائف والمشاريع، والمدينة (كما الشمال عموما) تدفع ثمن تداعيات الصراعات المذهبية والفئوية خصوصا من الفئات التي باتت تستظل مظلة الاقليات...
كان الرئيس فوْاد شهاب يقول للوزراء قبل انجاز اي مشروع قانون أو مرسوم :"اسألوا الأستاذ أحمد إذا كان مطابقاً للكتاب" (أي الدستور). أحمد الأحدب لم يكن الطرابلسي الوحيد الذي كان بمثابة "حفر وتنزيل" في الإدارة اللبنانية المركزية. كان الموظفون الطرابلسيون (والشماليون عموماً) يجهدون في إغناء وتعزيز الإدارات الرسمية أينما حلوا خارج طرابلس خصوصاً في العاصمة بيروت. كل قضاء البترون سكنه الحزن حين ترك الرئيس عدره رئاسة المحكمة في البترون وهو الذي جمع بين النزاهة والرحمة والحزم، فضلا عن القدرة على الوصل و التواصل بين المكونات المختلفة.
حتى أن وفاء الطرابلسيين عموماً، وبغض النظر عن انتماءاتهم السياسية والطائفية، فاق وفاءهم لمدينتهم دون أن يعني ذلك أنهم لم يتأثروا بالقوى السياسية التي دعمتهم وحمتهم وربما كانت واسطتهم للوصول الى الفئات الوظيفية الأولى. وللمفارقة فإن أداء الموظفين الشماليين في المدينة سواء في الإدارات والبلديات، وسواء في المجالس والمؤسسات المختلفة لم يكن على المستوى نفسه، ربما لقربهم من الإقطاع السياسي ومن ثم الأحزاب والفئات والفاعليات التي أدخلتهم الى هذه المواقع، ما جعلهم تحت التأثير المباشر لـ"الزعماء" الذين يسعون بالدرجة الأولى الى النفوذ السياسي والإنتخابي على حساب مصالح المدينة والشمال عموما.
والى جانب رعاية الفوضى الإدارية والبلدية في المدينة تجري رعاية فوضى اجمالية، جعلت المدينة وأهلها يقعون تحت مطرقة الإهمال الرسمي من المركز وسندان التجاهل والصراعات فضلاً عن الشخصانية و الإستخفاف والتلكؤ من قبل النخب السياسية وغير السياسية في المدينة. وقد أكسبها هذا الواقع سمعة سيئة لا تتناسب حقيقة مع قيمها وواقعها وطاقاتها وتاريخها باعتبارها تجمع بين الأصالة والإعتدال من جهة والحداثة والإنفتاح من جهة أخرى.
أهل طرابلس أعطوا للعاصمة أكثر مما أخذوا، خصوصاً على صعيد الوظائف والمشاريع، علماً ان دورها تراجع منذ بداية القرن الماضي لمصلحة بيروت الصاعدة مع لبنان الكبير بعد أن كانت المرفأ والعاصمة العملية والإقتصادية للشمالين السوري واللبناني، وها هي تدفع أثماناً مضاعفة لتداعيات الصراعات الداخلية والإقليمية، فتعاقب في مجالات كثيرة وتزداد مربعاتها الأمنية خطورة، علما أن معظم (حتى لا نقول جميع) أهلها يؤيدون شعار طرابلس مدينة منزوعة السلاح وهو ما يبدو بعيد المنال.
والمدينة (كما الشمال عموماً) تدفع ثمن تداعيات الصراعات المذهبية والفئوية، خصوصاً من الفئات التي باتت تتظلل مظلة الأقليات في محاولة لدرء هجمة "الربيع العربي" المسمى زورا من قبلهم "ربيعا سنيا"، فيتم شحذ السكاكين للإنقضاض على مواقع الخصم بدون رحمة مما يهدد النسيج اللبناني المتنوع كما يهدد نسيم الحريات الذي لطالما تنشقناه ولطالما شكل قوة دفع للشباب والصبايا في عالمنا العربي المنتفض ضد الإستبداد والتخلف.
ويأمل مجلخو السكاكين المذهبية في القبض على نواصي ومفارق وعصب الإدارة الرئيسة في الدولة. فمثلا يُدفع الدكتور الكفيّ وصاحب الأخلاق الرفيعة حمدي شوق الى الإستقالة من قيادة المطار لمزيد من وضع اليد من قبل الفئة المسيطرة، وتفتعل القضايا والمشاكل في وجه قيادة قوى الأمن الداخلي وفرع المعلومات رغم ما تثيره من نعرات طائفية، حيث أن بعض القوى السياسية، وبعد أن فقدت غطاء السيادة والحرية الذي كانت تتظلله، باتت الآن تعمل على شد العصب الطائفي والمذهبي تحت ذريعة انتزاع حقوق مغتصبة، لذا تشتد الهجمة المتعددة المنبع على اللواء ريفي، خصوصا بعد صموده وصراحته وشجاعته كما بانت مجددا في افادته أمام لجنة حقوق الإنسان. كما تعمل هذه الفئات على محاولة السطو على القضاء وتحاول ابتزاز(على ما ورد في بعض الصحف) وجهاً طرابلسياً نسائياً بارزاً كالرئيس أليس شبطيني التي لطالما افتخرت المدينة بها الى درجة أن نخبها تداولوا مرارا اسمها كمرشحة للمثقفين و"الأوادم" عن المقعد الماروني.
أما ما يحصل في وزارة الإتصالات فيمكن القول أنه قد طفح الكيل، حيث أن التيار السياسي الذي أتى منه الوزيران الأخيران يعتبرالوزارة ملكاً شخصياً له. وفي هذا السياق يقع التضييق المالي والهجوم المتواصل على هيئة "أوجيرو" ومديرها العام الدكتور عبد المنعم يوسف الذي قضى حوالى السنتين في سجون النظام الأمني السابق وفي اطار سياسة التطهير التي تذر بقرنها من جديد في هذه الأيام. وما يزيد في "ذنب" يوسف أنه بالإضافة الى وفائه الى المركز كأي شمالي، فإنه سعى الى اعطاء العاصمة الثانية والشمال عموماً جزءاً من الحقوق والخدمات، سواء بتأسيس مراكز مستقلة لـ"أوجيرو" في طرابلس وحلبا بعد أن كانت تتبع عملياً ادارة جبيل، أو حين إعتمد طرابلس كمخرج لشبكة الألياف البصرية التي يشترك بها لبنان مع دول كثيرة مما شكل بنية تحتية لضخ استثمارات في الشرايين الإقتصادية للعاصمة الشمالية، ومن شركات عاملة في عالم الإتصالات المتنامي، وهذا ما يبدو أنه أغاظ أحد الوزراء، وقد عمل الأخير جاهدا على نقل المخرج الى مدينة أخرى دون أن يفلح.
إن الدفاع عن المدراء العامين الشماليين (خصوصا محبي المدينة المظلومة) والذين يقومون بواجباتهم بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية والفئوية هو أقل ما يجب عمله في سياق الدفاع عن طرابلس والشمال وربما عن الإدارة اللبنانية بشكل عام، علما أننا أمام محاولة استنساخ نسخة مشوهة من المحاصصة، ذلك أنه في هذه المرة تختلط المحاصصة البالغة السوء أصلا، بفئوية ومذهبية إستثنائية تصل الى حد الوقاحة عند البعض، هذا البعض الذي يعمل على "هبش" المواقع الإدارية، من أجل هبش الإنتخابات المقبلة في إطار إرواء عطش أجوف نحو السلطة و التسلط وإن بالسلبطة. هذه السياسة الرعناء المترافقة مع محاولة التضييق على الحريات (الإعلامية منها خصوصا) تشكل خطراً على توازن النظام العام في البلد، فضلا عن أنها تدفّع طرابلس والشمال ككل أثمانا مضاعفة كالعادة. فالمدينة (والشمال عموما) تنتظر هجمة تنموية تتناسب مع التضحيات، وربما وجب على المجتمع المدني والأهلي والقوى السياسية المختلفة استدراج هذه الهجمة والضغط من أجل الجودة والإسراع في تنفيذ المشاريع الموجودة، كمشروع البناء الجامعي الموحد في المون ميشال والذي يسير على بيض مجلس الإنماء والإعمار المستقدم من أعشاش دجاجات المسؤولين!
( استاذ في الجامعة اللبنانية)
|