التاريخ: تشرين الأول ٣٠, ٢٠١١
المصدر: جريدة الحياة
تونس والتجربة الديموقراطية - محمد الأشهب

ما يلفت في انتخابات تونس أنها جاءت على غرار تجربة سابقة عاشتها الجزائر في نهاية ثمانينات القرن الماضي. الفارق أن التزام نتائج صناديق الاقتراع لم يجد في تونس بعد سقوط نظام بن علي من يمانع في قبول الأمر الواقع، على عكس ما حدث في الجزائر. مع فارق في التوقيت وآليات ومنهجيات الاستقراء. فقد تغيرت تونس قبل أن يذهب ناخبوها إلى غرف الاقتراع، فيما أن تجارب أخرى في المنطقة المغاربية توخت التغيير بآليات ديموقراطية لا زالت تراوح مكانها.


إلى ما قبل هبوب نسائم الربيع العربي، كان التغيير يرتبط بحمولات رمزية، في مقدمها افساح المجال أمام قوى المعارضة لتجريب مشاريعها الإصلاحية على محك التداول السلمي على السلطة. فقد ساد الافتتان بالنماذج الغربية في ديموقراطيات ذات تقاليد راسخة، ولم تنزل من السماء، ولم تأت من دون معاناة وصراعات وتفاعلات تاريخية.


لا بد من استحضار أن الديموقراطية الغربية لم تأت من فراغ. فقد سبقتها ثورات وصراعات، واحتاجت إلى ما يزيد عن قرن وأكثر، كي تتبلور الأفكار الفلسفية الحالمة عبر مشاريع تمشي على الأرض. ولا يزال العقل الغربي يرمي شباكه في البحر للاهتداء إلى نموذج كوني، يروم في الوقت الراهن تجاوز عقبات النظم السياسية والاقتصادية والمصرفية للتغلب على الأزمات.
بيد أن القول يصح لناحية تلمّس النماذج الغربية في إقامة هوامش ديموقراطية في الجوار الجنوبي للفضاء الأوروبي أنها غير مكتملة. لأن سجلات التداول السلمي في المنطقة المغاربية بدت خالية من ممارسات مشجعة، إلا في ما ندر.


لكن النقص لا يعني الوقوف في منتصف الطريق، بل يتطلب جهوداً مضاعفة في الربط بين الحل الديموقراطي ومتطلبات التنمية الشاملة، بهدف إضفاء أبعاد عملية على التوجه الديموقراطي الذي يتحول إلى مكاسب سياسية واقتصادية وثقافية يعاينها الرأي العام عن كثب.
لأن الديموقراطية ارتبطت في جوهرها باتساع مدى المشاركة الشعبية التي تنبع من سلامة الاختيار الذي يحكمه الاقتناع بالبرامج والأفكار، وليس الشعارات، فقد أثبتت تونس أن الإقبال على صناديق الاقتراع يرهنه سقف الثقة والأمل، إذ يترسخ الاعتقاد بأن الإرادة الحقيقية للأمة، تمارسها من دون ضغوط أو إكراهات أو استخدام وسائل مشينة في التأثير على الناخبين واستمالة أصواتهم بالمال أو السلطة.


لم يكفر الجمهور بالديموقراطية، ولكنه فقد الثقة بالممارسات التي أفرغتها من مضمونها، وحولتها إلى مجرد واجهة تخفي الاستبداد أو الاستئثار بالسلطة، وتحديداً من خلال تنصيب الأحزاب الموالية التي تدور في فلك الحكام. ولا تعدو أن تكون بمثابة أدوات لفرض سيطرة اللوبيات المختلفة، ذات النفوذ المالي والسلطوي. وكان طبيعيا أن يقترن حماس التونسيين على سبيل المثال بانهيار ديموقراطية الواجهة.
لا يهم التوقف عند نتائج الاقتراع. فالمفهوم العقابي في منح الثقة لمن لم يجربوا حظوظهم في إدارة الشأن العام، سيبقى قائما باستمرار. إنه يحدث في أعرق الديموقراطيات التي آلت إلى أفضل الصيغ المتاحة في فصل السلط وتوازن الأدوار، وصون إرادة الناخبين الذين يعتزون بحمل ورقة الناخب كما فاتورة أداء الضرائب المستحقة للدولة.


وإذا كان لافتاً أن تيارات إسلامية بعينها شكلت مركز استقطاب في التجربة التونسية الراهنة، وربما في استقراءات محتملة في دول الجوار، فإن هذا التطور قد يصبح عنصراً مساعداً في فهم الحراك الاجتماعي الذي يدور على نطاق واسع. وهو لا يقتصر على نفوذ الحركات الإسلامية أو اليسارية حتى أو الليبرالية، بل هو نتاج تجارب التهميش ومحاولات الاستئصال. ولو أن المسار الديموقراطي اتبع منهجية عادية في التداول السلمي على السلطة، لما حدث أي نوع من قطيعة الأفكار بين هذا التوجه أو ذاك. ففي النهاية لا تعكس صناديق الاقتراع، إذ تنطبع بالنزاهة والحياد، إلا ما يحبل به الشارع من رؤى وتصورات وصراعات. وإذ كان هناك إسلاميون وليبراليون ويساريون ووسطيون، بل ومتطرفون، فإن التعاطي مع الواقع بطرق موضوعية لا يفرض إقصاء أي من المكونات، وهي تخوض المنافسات الانتخابية، طالما أن الحكم النهائي يبقى رهن إرادة الناخبين.


ليست الديموقراطية بضاعة تجارية أو مساحيق تجميل. ولكنها حراك ثقافي، لا بد أن يقود إلى رجاحة هذا الاختيار أو ذاك. وفي عصر عولمة الاقتصاد والفكر والإعلام يصبح تسويق الأفكار مثل المنتوجات التي تتطلب قدراً عالياً من الجودة والمنافسة والإتقان. ولن يضير الديموقراطية أن تتأثر بتقليعات العصر وتجاربه. لأن هناك دائماً إرادة تحرسها وتحميها يطلق عليها إرادة صناديق الاقتراع التي تخضع بدورها لقوانين التحول والتطور.