بمقدار ما كان الربيع العربي مفاجئاً حتى لصانعيه، كانت مواقف حركات التغيير العربية والخطوات التي اتخذتها عفوية بنت ساعتها. لقد نجحت العفوية في اكثر من ميدان وامتحان، ولكن ظهرت فيها احياناً ثقوب وثغرات. وتحول بعض هذه الثقوب الى مشاكل عندما تراجع تأثير عامل المفاجأة وتمكنت نخب عربية من استرجاع عنصر المبادرة ونظمت هجمات مضادة ضد قوى التغيير وضد قوى التحول الديموقراطي. ومع اشتداد الصراع بين الطرفين تحول التغيير الديموقراطي الى موضوع للتفكير ولتساؤلات مستعجلة وملحّة. وتركز الكثير من هذه التساؤلات والموضوعات حول مرحلة التغيير نفسها، وبخاصة شروط نجاحها وبلوغها مرحلة توطيد الديموقراطية في بلدان الانتفاضات والثورات. وعلى رغم ان هذه الاسئلة والمواضيع كانت متداولة قبل الثورات في اطار النشاطات المتعلقة بالتغيير الديموقراطي، إلا انها لم تحتل المكانة التي تستحقها من الاهتمام العربي آنذاك الا عند القليلين من المعنيين بالشأن العام في المنطقة.
ترددت هذه الاسئلة وغيرها من الموضوعات المهمة المتعلقة بالانتقال الى الديموقراطية في منتدى الحوار الشبابي الذي تمحور حول «الشباب والشبان في الانتفاضات العربية: عناصر التغيير نحو الديموقراطية» الذي نظمته اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الاسكوا) بالتنسيق مع هيئة الامم المتحدة للمرأة ومكتب المفوض السامي لحقوق الانسان في القاهرة يومي 16 و17 تشرين الاول (اكتوبر) الحالي. اشترك في المؤتمر فضلاً عن منظميه عدد من الباحثين والباحثات المعنيين بقضايا الشبيبة والمرأة العربية، وعدد من الناشطين والناشطات في الثورات والانتفاضات العربية وقد جاءت نسبة عالية منهم من ميادين وساحات التغيير للمساهمة في اعمال هذا المؤتمر المهم.
كان الهدف الرئيس من المنتدى كما حدده الداعون اليه هو إعداد برنامج للمستقبل لتعزيز مشاركة المرأة، هذا فضلاً عن الشبيبة في الحركات الانتقالية. ولعل هذا الهدف قد حدد عندما كانت الحركات الانتقالية تنتقل من نجاح الى آخر. ولكن في المرحلة اللاحقة وعندما ازدادت الصعوبات ضد حركات التغيير لم يعد يكفي الاهتمام بتعزيز دور المرأة والشببية في مجتمعات ما بعد الانتفاضات، بل كان لا بد من البحث في كيفية تعزيز حظ هذه الانتفاضات نفسها، في تحقيق هدف التغيير والانتقال الى الديموقراطية، وما هو الدور المطلوب من المرأة والشبيبة العربية لتعزيز فرص المرور الآمن من الاستبداد الى الديموقراطية.
في هذا السياق، كان من المناسب تخصيص الجلسة الاولى لكلمة ميشيل باشليه لكي تتحدث عن تجربة جمهورية تشيلي في الانتقال من ديكتاتورية اوغستو بينوشيه العسكرية الى النظام الديموقراطي المدني. ففضلاً عن ان باشليه هي المديرة التنفيذية لهيئة الامم المتحدة للمرأة، فإنها رئيسة جمهورية تشيلي السابقة، وعلاوة على هذا وذاك فإنها سارت رحلة طويلة من النضال قبل ان تصل الى الرئاسة. في هذه الرحلة رافقت والدها الجنرال باشليه الذي قاوم النظام الديكتاتوري فقضى بسكتة قلبية في السجن بعد ان نال نصيبه من التعذيب. كذلك تعرضت هي وأمها الى السجن والتعذيب والى النفي الاختياري قبل ان تعود الى بلادها وتعتلي سدة الرئاسة فيها.
من هذه المنصة التاريخية المليئة بذكريات النضال ضد الديكتاتورية، سعت باشليه الى توضيح الملامح الرئيسة لتجربة بلادها في الانتقال الى الديموقراطية، وتوقفت عند «الصفقة» التي تمت بين الاحزاب السياسية، من جهة، والمؤسسة العسكرية التي ترأسها بينوشيه، من جهة اخرى. هذه الصفقة لم تبدل رأي الطرفين في بعضهما بعضاً. ظل بينوشيه في رأي الاحزاب اليسارية والليبرالية التشيلية ديكتاتوراً سفك حياة الالوف من المواطنين والمواطنات. في المقابل لم يغير بينوشيه رأيه في المعارضة «المخربة». الصفقة كانت نتاج ادراك الطرفين ان كلفة استمرار الصراع بينهما اكبر بكثير من التوصل الى تسوية، وكانت نتيجة شعور بينوشيه بصورة خاصة ان الوقت لم يكن لمصلحة استمرار حكمه العسكري.
لم تقدم رئيسة التشيلي السابقة هذه التجربة كـ «نموذج» محتم للدمقرطة، وانما كحالة يمكن الاستفادة من دروسها وعبرها في هذا المسار. وحتى لا يساء تفسيرها، فقد شددت على ان لكل بلد ظروفه الخاصة، وأنه «عندما يتأهب هذا البلد او ذاك للانتقال الى الديموقراطية، فإن اسوأ امر يمكن ان يقدم عليه القائمون على هذه العملية هو استيراد نموذج الانتقال من الخارج وتطبيقه في بلادهم بصورة حرفية». هذا لا يمنع التعلم من تجارب الشعوب الاخرى، وليس من نجاحات هذه الشعوب فحسب، وإنما حتى من اخفاقاتها. والحقيقة ان هناك الكثير من المعالم المشتركة لتجارب دول اميركا اللاتينية (البرازيل، اوروغواي، الارجنتين وتشيلي) في الانتقال الى الديموقراطية مما اضاف الى اهمية مساهمة باشليه في المؤتمر.
شددت باشليه على ستة دروس يمكن المرء ان يستفيدها من تجربة تشيلي. بعض هذه الدروس يتعلق بمرحلة الانتقال الى الديموقراطية والبعض الآخر ينطبق على مرحلة ترسيخها. في الحالتين شددت باشليه على اهمية الحاجة الى تحقيق التفاهم بين القوى والاحزاب المنخرطة في التغيير. فالاحزاب التشيلية ظلت قليلة التأثير حتى عام 1983 لأنها كانت منقسمة على بعضها، ولكنها تمكنت من التحول الى فاعل رئيسي في البلاد، عندما توصلت الى برنامج مشترك واستراتيجية تغيير واحدة. توحيد هذه الاحزاب لم يكن عملاً سهلاً اذ «احتاج الى آلاف الاجتماعات السياسية واللقاءات مع القيادات النقابية والمجتمعية، والى قيادة سياسية عالية الكفاءة».
الشرط الثاني لنجاح الانتقال الى الديموقراطية في تشيلي وفي اميركا اللاتينية ان البرنامج المشترك بين قوى التغيير تضمن الاتفاق حول «المبادئ الدستورية الناظمة لعملية الانتقال وللنظام الذي سينبثق عنها». هذا الاتفاق لم ينحصر في العموميات وإنما تطرق الى التفاصيل المتعلقة بالبرنامج الزمني للدمقرطة على كل المستويات ولنظام الحكم الجديد سواء كان رئاسياً ام برلمانياً ام هجيناً ومواعيد الانتخابات وحجم المجالس التمثيلية وصلاحياتها. ان الاتفاق على هذه القواعد هو الذي يحول الديموقراطية من صفة شكلية للنظام الى اطار محكم للعمل السياسي او الى «اللعبة الوحيدة في البلد» كما يصفها جوان لينز، استاذ العلوم السياسية في جامعة يال الاميركية.
لقد تمكنت حركات التغيير في اميركا اللاتينية من الايفاء بالشروط الرئيسة للانتقال بالمنطقة من نظم الاستبداد العسكري الى النظم الديموقراطية بكلفة محدودة وفي زمن قصير نسبياً، الامر الذي جعل البعض يرى في «القرن الحادي والعشرين عصر اميركا اللاتينية». هل تستطيع حركات التغيير في المنطقة العربية الاستفادة من تجارب الانتقال الى الديموقراطية في اميركا اللاتينية؟ لقد كان وقع كلام باشليه، المناضلة السابقة من اجل التغيير في بلادها، ايجابياً على المشتركين في المؤتمر من شبيبة الانتفاضات العربية، ولكن هناك فوارق مهمة بين مسار التغيير في البلاد العربية ودول اميركا اللاتينية. هذه الفوارق تقلل من امكانية الاستفادة من تجارب هذه الدول.
لقد طبخت مشاريع التفاهم والتعاون والتحرك المشترك بين قوى التغيير في دول اميركا اللاتينية على مدى زمني استغرق سنوات، وعلى نار هادئة. اما في المنطقة العربية، فإن عنصر المفاجأة لم يترك، كما اشرنا اعلاه، لحركات التغيير في المنطقة العربية مجالاً لتحقيق مثل هذا التفاهمات. ومن الفوارق المهمة ايضاً ان الاطراف المعنية تلتزم عادة بالتعهدات والالتزامات وبالنصوص الدستورية متى وافقت عليها. وهكذا اضطر بينوشيه الى الامتناع عن ترشيح نفسه مرة اخرى عام 1988 عندما لم يتمكن من الحصول على تأييد غالبية المستفتين. بالمقارنة، فإن القيادات السياسية في المنطقة العربية لا تلتزم التزاماً دقيقاً بالتعهدات وبالدساتير والقوانين. وهذا ما يزيد الانتقال السلمي الى الديموقراطية صعوبة.
ثم ان الانظمة العسكرية في اميركا اللاتينية التي مارست اشد انواع القمع ضد المعارضات ورفضت الاعتراف بها وشنت عليها حرباً اعلامية وسياسية فضلاً عن القمع، ما لبثت ان غيرت موقفها من تلك المعارضات فاعترفت بها ودخلت معها في مفاوضات ادت، في نهاية المطاف، الى انسحاب العسكريين الى الثكنات. في الدول العربية لا تزال حملة القمع على اشدّها، وفي ظلها يبطل الاعتراف المتبادل بين طرفي الصراع الرئيسين. وتتجه الاوضاع العربية إما الى حرب استنزاف لا قرار لها، او الى فتح الابواب العربية امام التدخل الاجنبي.
وفي اميركا اللاتينية، وعلى رغم تاريخ التدخل والهيمنة الذي مارسته الولايات المتحدة على القارة، فإن دورها كان محدوداً وغير ايجابي في اكثر الحالات في عمليات الانتقال الى الديموقراطية. الدور الاكبر في هذه العملية كان اميركياً لاتينياً، وهذه الصفة ساعدت على المقاربة الواقعية لعملية التغيير وعلى التوصل الى مساومة محكومة بميزان قوى محلي مال الى مصلحة حركات التغيير. في المقابل نجد ان دول الحلف الاطلسي تسعى الى الامساك بخيوط المبادرة في عملية التغيير في المنطقة العربية ومن ثم الى توجيه هذه العملية في مسار يخدم مصالحها ويتناقض، في اكثر الاحيان، مع موجبات التغيير الديموقراطي.
على رغم هذه الفوارق، تبقى للدروس المستفادة من تجربة اميركا اللاتينية اهميتها. وتستطيع بعض الاطراف الدولية والاقليمية، مثل المنظمات المعنية بمسألة التحول الديموقراطي، ان تساعد حركات التغيير العربية على الاستفادة من تلك الدروس. تستطيع هذه المنظمات توفير اطارات مناسبة - مثل مؤتمر القاهرة - لحركات التغيير العربية للتعجيل في التوصل الى تفاهمات مشتركة حول اهم قضايا التغيير وترسيخ الديموقراطية. هذا النهج سيساعد حركات التغيير على تأسيس العهود الجديدة بعد ان تتقوض العهود القديمة، او على تمكينها من ولوج عملية تفاوضية بكفاءة وثقة عالية بالنفس اذا كان التفاوض هو الطريق الى التغيير، كما كان الامر في تشيلي ودول اميركا اللاتينية الاخرى.
* كاتب لبناني
|