التاريخ: تشرين الأول ٢٦, ٢٠١١
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
هدر انتخابي - جمال فهمي

أغلقت مساء الأثنين أبواب مكاتب تلقي طلبات الترشح لعضوية أول برلمان مصري بعد "ثورة 25 يناير" التي خلعت الرئيس السابق حسني مبارك وزلزلت أركان نظامه. ورغم أن مهلة تقديم أوراق المرشحين واللوائح الانتخابية للأحزاب مددت مرات عدة حتى صارت الأطول في تاريخ الحياة البرلمانية المصرية ، فان المشهد الذي خلفته بدا غارقا في ملامح فوضى وارتباك وتعثر تخطئها عين ، إذ تحالفت الأوضاع البائسة للأحزاب (جديدها وقديمها) وفقرها القيادي الملحوظ ، مع نظام انتخابي مستحدث ومعقد وغير متجانس، في تعميق وتجسيد لمظاهر أزمة السياسة في مجتمع خرج للتو من حال تصحر وجفاف شديدين غلف بيئة المجال العام حقبا وعقودا وسنوات طويلة.


ومع أن حصيلة أعداد المتنافسين للفوز بمقاعد برلمان الثورة قد تكون أيضا هي الأكبر في تاريخ مصر الحديث ، فان هذا التضخم العددي لم يترك أنطباعا بالثراء والحيوية وإنما أكد الطابع العشوائي لتحالفات إنتخابية بدائية (تمدحها لو اكتفيت بنعتها بالانتهازية) ظلت تتبدل وتتغير وتنعقد وتتفكك كل يوم حتى تركت جمهور الناخبين في حيرة غير مسبوقة وقفت به على حافة الإحباط واليأس.


في ظل هذا الوضع تسربت تقديرات عن المبلغ الذي توقع خبراء كثر أهداره في الإنفاق على هذا المهرجان الانتخابي ، راوحت بين 12 و20 مليار جنيه ، من غير أن تدخل في الحساب كلفة الإجراءات الإدارية والتنطيمية التي ستتحملها الخزينة العامة للدولة مدى أسابيع طويلة ستستغرقها عمليات الاقتراع لملء مقاعد العضوية في مجلسين اشتراعيين أحدهما (مجلس الشورى) تجمع كل القوى السياسية على أنه "زائدة برلمانية" لا فائدة منها ولا لزوم لها.


ويقول الخبراء انه إذا أضيف ما سوف تتحمله الخزانة العامة إلى ما ستدفعه جيوش المرشحين على حملات الدعاية والفاعليات والرشى الإنتخابية وخلافها ، فإن تقديرات المبلغ المنتظر إهداره في هذه الانتخابات ستقفز إلى ما بين 15 و25 مليار جنيه (اكثر من 4 مليارات دولار) في بلد مثقل بالأزمات الاقتصادية والمآسي الاجتماعية!


هذه الأرقام الفاحشة استفزت كثيرين ودفعت بعضهم إلى القول علنا ان ثروة بهذا الحجم لو كانت المقابل الذي لا بد أن ندفعه لإرساء دعائم نظام سياسي ديموقراطي متطور ورشيد يتمتع بالقدرة على تمثيل الشعب وأشراكه بكل تنوعاته في بناء مجتمع جديد ووطن متحرر من أغلال القهر والظلم والاستغلال والفساد والتخلف، لهان الأمر كثيرا وبدا هذا الثمن رخيصا وربما تافها ، لكننا جميعا نعرف أن الفوضى والعشوائية السياسية والدستورية والتشريعية التي تراكمت آثارها واستفحلت خسائرها وتشوهاتها طوال الاشهر الثمانية الاخيرة اشاعت مناخا خانقا وبيئة مسممة بعدد لا يحصى من الملوثات التي تجعل العملية الانتخابية المقبلة في أمس الحاجة الى معجزة سماوية حقيقية حتى تفرز شيئا يشبه البرلمانات.