التاريخ: تشرين الأول ٢٦, ٢٠١١
المصدر: جريدة الحياة
الثقافة السياسية المصرية تشخصن القوائم الانتخابية - محمد شومان

أغلق أول أمس باب الترشح لانتخابات مجلسي الشعب والشورى، لتدخل مصر - وكالعادة بعد تونس - في مرحلة الاستحقاق الانتخابي لاختيار أول برلمان بعد الثورة سيقوم بوضع دستور جديد. وتجاوز عدد المرشحين ستة آلاف مرشح، يتنافسون على ١٦٦ مقعداً، وبلغ عدد القوائم الحزبية ٢٢٨ تتنافس في ٤٦ دائرة، بينما وصل عدد مرشحي الدوائر الفردية لمجلس الشورى 1400 يتنافسون على ٦٠ مقعداً و١٠٢ قائمة حزبية تتنافس في ٣٠ دائرة.


وعلى رغم أن قانون الانتخابات ينص على تخصيص ثلثي المقاعد للقوائم الحزبية والثلث الباقي للدوائر الفردية، إلا أن التحليل الكمي والسياسي لهويات المرشحين وانتماءاتهم تكشف عن بروز الطابع الشخصي للانتخابات، وهيمنة التحالفات والمصالح الانتخابية على حساب الأفكار والمواقف السياسية. فقد تشكلت قوائم انتخابية وتحالفات لأحزاب عدة بينها تناقضات فكرية وسياسية هائلة، وظهرت بعض القوائم والترشيحات تجمع أعضاء سابقين في الحزب الوطني (يعرفون بالفلول) مع «الإخوان» والناصريين. وضمت قوائم الوفد يساريين وفلولاً، وتخاصمت الأحزاب السلفية مع «الإخوان»، وانهار حلم ظهور تحالف إسلامي، وإن ظهرت بعض أشكال التنسيق في بعض الدوائر. والأغرب أن بعض الناصريين تحالفوا مع أحزاب سلفية، واجتمع الليبرالي مع السلفي مع الناصري في قوائم أخرى!
ومن الطبيعي في ظل هذا المناخ أن تغيب الأفكار وتموت المبادئ والأيديولوجيات وتنتعش صفقات وتحالفات بعضها متغير ومريب، لكن المشهد العام يتناقض مع خطاب الثورة ومع الأسس والغايات التي دعا إليها. ويمكن هنا أن أسجل عدداً من الملاحظات التي تستدعي التفكر:


1- لم تطرح أي قائمة حزبية حتى الآن برنامجاً سياسياً واضحاً يعبّر عن رؤيتها لمستقبل مصر. ما يعني أن غالبية الأحزاب القديمة والجديدة طالبت بنظام القوائم بعد الثورة، ثم حولته بدافع الانتهازية إلى نظام يعتمد على الأشخاص وما يمتلكونه من رأس مال رمزي أو مادي.


2- إن كثيراً من الشخصيات والأحزاب التي انتمت قولاً وفعلاً الى الثورة لم تنجح في التنسيق في ما بينها، عكس الأشخاص والأحزاب الذين خرجوا من عباءة الحزب الوطني. فقد كانوا أكثر قدرة - ربما بحكم خبرتهم - على التنسيق في ما بينهم وضمان عدم التنافس أو الصدام بين مرشحيهم. في المقابل، فشلت قوى وأحزاب الثورة في الاتفاق على قائمة موحدة، وهي الفكرة التي طرحها «الإخوان» وقبلهم الوفد وكثير من الأحزاب المدنية والسلفية والناصريين، لكن الفكرة تعثرت نتيجة خلافات عملية خاصة بنصيب كل حزب وترتيب مرشحيه داخل القوائم الانتخابية، علاوة على رغبة «الإخوان» في الهيمنة على القائمة الموحدة التي عرفت بالتحالف الديموقراطي. أكثر من ذلك، فإن بعض رموز الثورة يخوض الانتخابات في بعض الدوائر الفردية من دون تنسيق بل وفي صدام بينهم.


3- إن الفشل في تشكيل قائمة التحالف الديموقراطي، بقيادة «الإخوان» والوفد وكذلك الفشل في التحالف بين «الإخوان» والأحزاب السلفية، باعد بين مصر وخطر الانقسام والاستقطاب الثنائي بين أنصار الدولة المدنية والدينية، حيث تجمع أنصار الدولة المدنية في قائمة تضم الكثير من الأحزاب الليبرالية الجديدة، عرفت بالكتلة المصرية، لخوض الانتخابات ضد التحالف الديموقراطي أو أي تحالف إسلاموي. وهذه الحالة كانت ستكرس الانقسام الثقافي الذي ظهر في الاستفتاء على الدستور في آذار (مارس) الماضي، وربما تعيد إنتاجه على خلفية احتقان طائفي وأزمة هوية. وأعتقد أن إعلان الوفد والسلفيين عن خوض كل منهما الانتخابات بقوائم مستقلة وظهور قوائم أخرى ستقلص من احتمالات عودة مناخ الاستقطاب الثقافي والسياسي في الانتخابات، لكن تظل أيضاً احتمالات استدعاء هذا الاستقطاب في الدعاية الانتخابية، خصوصاً إذا ما اقترنت بتمييز على أساس ديني أو جهوي.


4- إن تجفيف مصادر الاستقطاب الثقافي والسياسي والتمييز الديني يرتبط بضمان نزاهة الانتخابات وشفافيتها، وهي عملية بالغة الصعوبة والتعقيد في ظل ضعف الأمن وترهل أداء أجهزة الدولة، والأهم استمرار الثقافة السياسية التي اعتمد عليها الرئيس مبارك وكرسها خلال ثلاثين سنة، وتقوم على تقسيم النخبة وإفساد قطاع كبير منها، وإبعاد المواطنين عن المشاركة السياسية، وتحويل البرلمان إلى آلية لاكتساب النفوذ والثروة على حساب أدواره التشريعية والرقابية، وبالتالي شرعنة ونشر الانتفاع السياسي، والبراغماتية في العمل السياسي، فالغاية تبرر الوسيلة، من هنا كانت الأحزاب القديمة تتعاون مع مباحث أمن الدولة، وتفاهم «الإخوان» مع الحزب الوطني والمباحث في انتخابات 2005، وسادت في الثقافة السياسية فكرة أن النجاح في البرلمان يعتمد على امتلاك القوة والقدرة على ممارستها، وليس امتلاك الفكر والرؤية والموقف. من هنا كانت غالبية النواب تأتي من رجال الأعمال ومن أبناء العائلات الكبيرة ومن كبار موظفي الدولة، وتحايل الجميع على تخصيص 50 في المئة من المقاعد للعمال والفلاحين، وجردوا الفكرة من معناها وهدفها!


5- يلاحظ ضعف تمثيل الأقباط والمرأة وشباب الثورة في قوائم الأحزاب – القديمة والجديدة - وفي الدوائر الفردية، والأغرب أن ممثلي هذه الفئات جاءوا في ترتيب متأخر ضمن بعض القوائم، ما يقلل من فرص نجاحهم، ولا شك في أن استمرار الثقافة السياسية القديمة لدى نخبة الأحزاب و «الإخوان» يفسر هذا التهميش غير المبرر، والذي قد يسفر عن ضعف في المشاركة السياسية، بخاصة لدى الأقباط الذين يشعرون بالقلق والحيرة من تنامي الحضور السياسي للأحزاب الإسلاموية، وفي الوقت نفسه عدم إدراك قطاعات واسعة منهم لكيفية استرجاع حضورهم السياسي في المجتمع، فقد تربوا لسنوات طويلة على الابتعاد من المشاركة السياسية وتفويض الكنيسة للحديث باسمهم، غير أن مشاركة الأقباط في الثورة كادت تنهي هذا التفويض الذي يمزج بين الديني والسياسي، لكن يبدو أن كارثة ماسبيرو وقصر نظر الأحزاب أعادا الحياة الى هذا التفويض، والذي يتعارض مع المفهوم السليم للمواطنة.
6- لا شك في أن إرساء ثقافة ديموقراطية تحارب ما كان سائداً في النظام القديم يتطلب وقتاً وجهداً، لكنها تتطلب أيضاً تشريعات وقوانين ومؤسسات جديدة، تساعد المواطنين على تعلم قيم وآليات الديموقراطية وممارستها عبر المشاركة في الأحزاب والنقابات المستقلة والانتخابات النزيهة. لكن هذه الاستحقاقات تأخرت أو خرج بعضها مشوهاً – مثل إصلاح الإعلام القومي - بسبب المسار المتعثر للمرحلة الانتقالية، ورفض الحكم الجديد الاستفادة من تجارب التحول الديموقراطي في شرق أوروبا وأميركا اللاتينية، فلم يصدر قانون العزل السياسي على نواب الحزب الوطني في مجلسي الشعب والشورى المنحلين، وإذا صدر فسيكون محدود التأثير، كما رفضت الرقابة الدولية على الانتخابات، أو طلب مساعدة الأمم المتحدة في تنظيم أول وأصعب انتخابات بعد الثورة. الأمر الذي ينذر بسيناريو احتمال فوز فلول الحزب الوطني وبعض المستقلين ممن ليس لهم انتماء سياسي في غالبية البرلمان المقبل.


ونظرة سريعة إلى نتائج كثير من انتخابات العمداء ورؤساء الجامعات توضح ما أقصد، فقد أعاد أعضاء هيئة التدريس، وهم جمهور من النخبة، انتخاب كثير من العمداء ورؤساء الجامعات الذين عينوا في عصر مبارك، واتهموا بأن مباحث أمن الدولة هي التي عينتهم، لكن الانتخابات أعادتهم إلى مناصبهم. وبالتالي فالسؤال المطروح: ما هو السلوك المتوقع للناخبين العاديين وغالبيتهم من الأميين والفقراء؟


المرجح أنهم ولأسباب كثيرة سيعيدون انتخاب نواب الحزب الوطني السابقين، خصوصاً في الريف، ومن الواضح أن هذا السيناريو لا يقلق المجلس العسكري بل ربما يرحب به، فقد أعلن حرصه على استمرار الطابع المدني للدولة المصرية، وبالتالي، فإن من مصلحته أن يوازن نفوذ القوة الانتخابية لـ «الإخوان» والسلفيين بالقوة الانتخابية لفلول الوطني وبعض المرشحين المستقلين من أبناء العائلات ورجال الأعمال، وهؤلاء جميعاً يؤيدون السلطة أياً كانت توجهاتها الفكرية أو مواقفها السياسية. هذه المعادلة تعني مباشرة أن المجلس العسكري لا يطمئن كثيراً للثقل الانتخابي لائتلافات وأحزاب الثورة والقوى المدنية، إذ تمنحها التوقعات المتفائلة ما بين 15- 20 في المئة من المقاعد. والمفارقة هنا أن القوى المدنية التي يفترض أن تكون أقرب الى مواقف المجلس العسكري تبتعد عنه وتنتقد أداءه السياسي في حدة وعنف، بينما «الإخوان» والسلفيون يتقربون من المجلس العسكري وينتقدونه أحياناً بخطاب معتدل، بل إن بعض الجماعات السلفية يرى في المشير طنطاوي «الإمام» الذي لا يجوز الخروج عليه.


مفارقة ثانية تتعلق بترجيح فوز فلول الحزب الوطني والسلفيين، الذين لم يؤيدوا الثورة في بدايتها، بنسبة من مقاعد البرلمان أكبر من التي ستحصل عليها ائتلافات الثورة والقوى المدنية!


في كل الأحوال، فإن خريطة القوائم الحزبية والحسابات الانتخابية الحالية قد تختلف تماماً في الواقع العملي المتغير، وستظهر من دون شك مفاجآت، فكل الاحتمالات واردة بما فيها تأجيل الانتخابات، وهناك احتمال أن يتوزع برلمان الثورة على ثلاثة ائتلافات لا يمتلك أي منها الغالبية وهي القوى المدنية، والإسلاموية، وعناصر الحزب الوطني والمستقلون. كما أن هناك احتمالاً وارداً بزيادة نسبة المشاركة في التصويت، التي بلغت 41 في المئة في الاستفتاء على الدستور، في حال نجحت المرحلة الأولى من الانتخابات، ومرت من دون عنف أو بلطجة، وفي المقابل هناك احتمال بتراجع نسبة المشاركة في المرحلتين الثانية والثالثة في حال وقوع صدامات أو أحداث عنف في المرحلة الأولى، ووفق هذا السيناريو ستزيد فرص «الإخوان» والسلفيين في الحصول على نسبة أكبر من المقاعد، لأن أنصارهم سيشاركون مهما كانت الظروف لقناعتهم بأن التصويت واجب ديني، بينما لن تشارك غالبية الناخبين.


مهما يكن مسار الانتخابات ونتائجها، فمن الضروري تطبيق القانون وتفعيل آليات الرقابة على تمويل الحملات الانتخابية وشراء الأصوات، واستخدام دور العبادة والشعارات الدينية، وقيام الإعلام القومي بدوره في توعية الناخبين ودعوتهم للمشاركة. ويبقى تأمين الانتخابات المهمة الأصعب في ظل بطء وترهل أداء الشرطة، بل وبعض أهم مؤسسات الدولة وزيادة معدلات العنف والبلطجة، وهي بالمناسبة كانت احدى سمات انتخابات 2005 و2010، التي يجب ألا تتكرر.


* كاتب مصري