التاريخ: كانون ثاني ٢٢, ٢٠١١
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
 
إحياء "البورقيبية" في تونس لإخماد "ثورة الياسمين"؟

سليم نصار – لندن

في صباح يوم خريفي ماطر، وقفت سيارة فخمة سوداء اللون من طراز "بي أم دبليو" امام الشارة الحمراء وسط احد شوارع مدينة مرسى التونسية. وشوهد بين المارة رجل مسن يتوكأ على عصاه ويسير ببطء شديد نحو الرصيف الآخر وقد بلل المطر الغزير ثوبه. وفجأة ترجّل سائق السيارة الفارهة ليخلع معطفه ويضعه فوق كتفي الرجل المسن وسط ذهول بعض المواطنين الذين اعجبوا ببادرة رئيسهم زين العابدين بن علي.


جرت هذه الحادثة يوم السابع من شهر تشرين الثاني سنة 1996. وكان من الطبيعي ان يستغل الرئيس التونسي الاثر الطيب الذي احدثته هذه البادرة من اجل توظيفها سياسياً عبر وسائل الاعلام الخاضعة لاشرافه الخاص.


ويبدو انه كان يقلّد في هذه المحاولة مؤسس الدولة الحبيب بورقيبة الذي اعتاد التونسيون على اطلالته الاسبوعية وهو يستضيف الى مائدته طالبة فقيرة أو عاملة في متجر. والسبب ان بورقيبة كان يهدف الى اقناع الجمهور بأن السلطة لم تبعده عن هموم الشعب وطبقته المعوزة.


واللافت في هذا السياق ان زين العابدين كان يقلد بورقيبة في اسلوب ترسيخ الحكم على دفعات. علماً بأنه وصل الى الحكم بواسطة دعم واشنطن، في حين وصل بورقيبة من طريق النضال والمنافي والسجون. وقد استمر في الحكم مدة ثلاثين سنة، اي من 1957 الى 1987. ومع أنه اختير بعد استقلال بلاده عن فرنسا، رئيساً موقتاً... الا ان الجمعية التأسيسية نادت به اول رئيس للجمهورية بعد الغاء النظام الملكي الذي انشىء سنة 1705. ومع صدور اول دستور لتونس سنة 1959، جرى انتخاب الحبيب بورقيبة رئيساً للجمهورية. ثم تكرر انتخابه في كل دورة الى ان انتقاه مجلس النواب رئيساً مدى الحياة. واعتبر هذا القرار بمثابة تشريع لعودة الملكية وانما من طريق الوسائل الديموقراطية.


الرئيس الثاني في تاريخ الجمهورية التونسية زين العابدين بن علي، الغى هذا التعديل فور انتقال السلطة اليه كوزير اول (رئيس الوزراء) يوم تدهورت صحة بورقيبة واصبح عاجزاً عن ادارة شؤون الدولة. وقد تولت في حينه زوجة بورقيبة الثانية السيدة وسيلة، زمام الامور عبر وزراء كانت تختارهم.


من اجل تطمين الشعب التونسي، اعلن بن علي الغاء فكرة "رئيس مدى الحياة" وحصر مدة الرئاسة بخمس سنوات. وذكر يومها ان العامل الخفي الذي شجعه على اتخاذ هذا القرار، بروز اسم "الحبيب" نجل بورقيبة، كوريث سياسي شرعي لمؤسس الدولة. لذلك اجهض فكرة المنافسة قبل ان تولد، واعتبر ان "البورقيبية" ستستمر عبر حكمه. خلال مدة 23 سنة، اعيد انتخاب بن علي لولاية رئاسية خامسة، كانت الاخيرة في السابع من تشرين الثاني سنة 2009. ويبدو انه كان يتوقع ان ينتخب لولاية سادسة كي تتعادل فترة حكمه مع فترة المؤسس الحبيب بورقيبة. واللافت انه عندما شكر الشعب على انتخابه حتى سنة 2014، تعهد في مؤتمر صحافي، بالقضاء على البطالة، وترسيخ الخيار الديموقراطي. كذلك وعد بدعم المؤتمرات الخاصة بـ"مجتمع المعلومات والتحديث" وكل ما يساهم في توسيع دور المرأة عبر "منظمة المرأة العربية" التي ترأسها زوجته ليلى طرابلسي. وكان وزير الاتصال اسامة رمضاني قد اقفل موقع التواصل الاجتماعي "فايسبوك" امام التونسيين، ولكنه اعاد تفعيله بأمر من الرئيس المغرم بالتكنولوجيا.
يقول المراسلون الذين رافقوا تظاهرات الغضب في المدن التونسية، ان الاحزاب المحظورة سابقاً عادت لتطل برأسها من جديد. ومع تزايد حضور الاسلاميين والشيوعيين، بدأ المستقلون يتطلعون الى سلوك الحكومة الانتقالية التي تعتمد على الجيش في ضبط الشارع. ومع ان بن علي اعتمد في حماية عهده على اجهزته الخاصة كالشرطة والاستخبارات، الا انه اضطر مراراً الى استخدام الجيش في قمع الاضطرابات التي انفجرت على خلفية البطالة في "الحوض المنجمي" جنوب تونس (حزيران 2008). ويرى راشد الغنوشي، المعارض واللاجىء السياسي في بريطانيا، ان الارقام التي اعلنتها الحكومة عن عدد العاطلين عن العمل، هي ارقام مضللة. وفي رأيه ان التقديرات الصحيحة تشير الى وجود نصف مليون شاب عاطل عن العمل، وان انخراطهم في التظاهرات كان بسبب اقدام بائع خضار متجول على احراق نفسه كتعبير عن اليأس من انسداد افق العمل. وهو يتهم الدولة بنشر ارقام مخففة، حرصاً على تدفق الاستثمارات الخارجية، وعلى ابقاء تونس في مركز الدولة المميزة لدى الاتحاد الاوروبي.
اثر اعلان "وكالة الانباء الليبية" عن الاتصال الهاتفي الذي تم بين العقيد معمر القذافي والرئيس المطرود زين العابدين عبر الهاتف الجوال، ادعت المعارضة التونسية ان بن علي يتصل بانصاره بواسطة جواله الخاص. وزعمت ان اعضاء "حزب التجمع الدستوري الديموقراطي" الذي يتزعمه زين العابدين، يتسللون بين صفوف المتظاهرين من اجل اجهاض الانتفاضة، مقلدين بذلك خطة الالتفاف على حركة الاسلاميين في الجزائر مطلع التسعينات. وسرت في الوقت ذاته شائعات في تونس عن احتمال عودة الرئيس المطارد الى بلاده بدعم اميركي. تماماً مثلما اعادت الاستخبارات الاميركية شاه ايران من روما بعد هربه من ثورة مصدق سنة 1952، خصوصاً ان طبائع زين العابدين لا تختلف عن طبائع الشاه. فهو مثله يتظاهر بالشجاعة، ولكنه في داخله يخشى المنازلة. لذلك اعلن في خطابه يوم 13 الجاري انه لن يترشح للرئاسة سنة 2014، وانه سيعاقب الذين حجبوا عنه الحقائق. وللدلالة على خوفه من الجماهير الهائجة، سقط الميكروفون من يده ثلاث مرات، قبل ان يتوجه الى المطار مع اسرته ويلجأ الى السعودية.


المعروف ان عيدي امين طلب اللجوء السياسي الى السعودية بعد اداء فريضة الحج بسبب الانقلاب الذي تم في غيابه سنة 1979. وحاول مراسل "ب. ب. سي" استدراجه الى حديث صحافي حول الوضع الجديد في اوغندا. وقبل الموعد بساعة افهم عيدي امين بأن سلوكات اللاجىء السياسي تفرض عليه احترام الدولة المضيفة وعدم استخدام ارضها للتدخل في شؤون دول اخرى. ومنذ ذلك الحين اكتفى عيدي امين بالتحدث الى اولاده الثلاثين الذين امضوا اوقاتهم بالسباحة في حوض فندق في جدة.


يوم الاربعاء الماضي فتحت السلطات التونسية الجديدة، ملف الفساد ضد الرئيس المخلوع وعائلته. وبدأت اجراءات قضائية ضدهم بتهم اختلاس اموال وممتلكات تخص الدولة. وترافق هذا الاجراء مع اعلان سويسرا تجميد الحسابات المصرفية لزين العابدين وزوجته ليلى طرابلسي الملقبة بـ"اميلدا ماركوس" التونسية. وقد تزوجها عقب طلاقه من زوجته الاولى ابنة الجنرال كافي التي انجب منها ثلاث بنات. اما ليلى فقد انجبت له نسرين وحليمة (على اسم والدته) ومحمد زين العابدين المولود في 30 شباط 2005.


بالرغم من حذر الاسلاميين اثناء التظاهرات، وحرصهم على عدم الظهور بمظهر المحرضين على الاضطرابات، الا ان الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد توقع لهم الظفر بحكم اسلامي شبيه بالجمهورية الاسلامية. وقد وصفت توقعاته بأنها من النوع القاتل، لأن المجتمع التونسي البعيد كل البعد عن اعمال العنف، يصعب عليه الاستيلاء على الحكم بقوة السلاح، خصوصاً انه مجتمع علماني تتفوق فيه المرأة على الرجل، في اكثر من مجال. وقد ارسى قواعد هذا النظام المؤسس الرئيس الحبيب بورقيبة، الذي منح المرأة مكانة مشابهة لمكانة الرجل: مساواة في فرص العمل... ومساواة في حقوق الزواج والطلاق وحظر تعدد الزوجة، وحظر ارتداء الحجاب، واعتبار العلمانية دليلاً على الليبرالية.


في مثل هذا المجتمع احرق شاب نفسه احتجاجاً على مصادرة بضاعته، فاذا بالتظاهرات تسقط اقوى الرؤساء نفوذا. في حين احرق مستاؤون آخرون انفسهم في مصر والجزائر وموريتانيا، ولكن محاولاتهم لم تحدث الانفجار المطلوب. وبسبب خصوصية الشعب التونسي، امتنع الاسلاميون عن تأييد عملية اغتيال الوزير الاول زين العابدين بن علي في عيد الشجرة المصادف في 8 تشرين الثاني. كما كشفت خطة الاغتيال احدى نسيبات الرئيس بورقيبة، لاقتناعها بأن المنافس على السلطة ليس عدواً، بل شريك من طرف آخر.
ومثل هذه المعادلة لا يقرها احمد نجاد...