التاريخ: كانون ثاني ١, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
وادي بردى: النظام قصف محطة المياه ... فعطشت دمشق
محمد فارس 
تفتح سمر صنبور المياه لإعداد قهوة الصباح. لا ماء اليوم كذلك. لم تسمع أخباراً عن أهلها في وادي بردى المحاصر بالريف الدمشقي منذ الخميس الماضي. الاتصالات مقطوعة والحملة العسكرية للجيش النظامي و «حزب الله» مستمرة على الوادي.

أنسَت أزمة فقدان المياه أهالي دمشق أزمات فقدان غاز الطبخ والكهرباء والمازوت المستمرة، والتي تفاقمت مع انخفاض الحرارة واعتماد السكان على غاز الطبخ والكهرباء بدلاً من المازوت غير المتوافر أصلاً. الأهالي يسجلون عند مخاتير الأحياء دورهم في الحصول على قوارير الغاز، بينما انقطاع الكهرباء مستمر لعشرين ساعة في بعض الأحياء.

لا مشكلة بالنسبة إلى سمر. لقد قاست في الوادي سابقاً، ولمدة طويلة، ما يقاسيه سكان دمشق منذ بضعة أيام. ولا زال سكان وادي بردى يعيشون ظروفاً شبيهة منذ منتصف التسعينات، إلى أن تكثفت أزمتهم المعيشية والمائية عام 2012 نتيجة حصار قراهم.

وجاءت أزمة المياه نتيجة تعرض نبع عين الفيجة لقصف بالبراميل المتفجرة، وفق أهالي الفيجة، بينما اتهم النظام مسلحي المعارضة بتفجير النبع، ما أدى إلى خروج مضخات المياه من العمل. وانتشرت سيارات وصهاريج لبيع المياه في دمشق فصار الليتر بـ150 ليرة (0.28 دولار) والصهريج بـ2,500 ليرة (4.80 دولار) من دون حل في الأفق. لكن ما تعيشه دمشق ووادي بردى اليوم ليس إلا رأس جبل الجليد.

ويقع وادي بردى في سلسلة جبال لبنان الشرقية بالقرب من الحدود السورية - اللبنانية. وكان الوادي منطقة غنية بالمياه قبل عام 1970 بوجود نبعي الفيجة وبردى المصدر المائي الرئيسي للعاصمة دمشق.

نذير الكارثة

تتذكر سمر أجمل أيام الطفولة التي قضتها تبني بيوت الطين وتركض خلف اليعاسيب والفراشات في وادي بردى. في الصيف، كانت السباحة في نهر بردى واللعب في البساتين متعة الحياة. «كانت كل الفصول في الوادي بديعة الجمال» تقول سمر، 34 عاماً، من قرية كفير الزيت، في ريف دمشق الغربي، ونازحة اليوم إلى دمشق. «لا يزال خرير الشلالات وضحك الأطفال يغطسون في النهر يترددان في أذني. لا تريد روحي أن تبارح المكان. روحي معلّقة به».

تمتلك أسرتها أراضي في الوادي ومحيطه. وهي تذكر أشجار الحور والجميز والجوز. وتذكر أيام كان جدّها الفلاح ووالدها وأعمامها يحرسون بساتين المشمش والجارنك والخوخ. «لم تكن مشكلة أن يأكل طفل ثمرة. كانت المشكلة أن يُكسر غُصن أو تقضم عنزة شجرة أو أن تُحرق أخرى».

كما تذكر سمر أيام المراهقة في منتصف التسعينات كيف تعب الفلاحون من الشِّجار أثناء سقاية البساتين لأن منسوب النهر انخفض بشدة، وما عاد كافياً للري بانتظام. وما هي إلا سنوات قليلة حتى اختفى نهر بردى من الوادي حين نُقلت مياهه من منبعه إلى نبع الفيجة بأنبوب يمر من الوادي من دون أن يكون لأهل الوادي أي نصيب فيه أو في نبع الفيجة. جاء ذلك تلبية للزيادة السكانية في شكل مشوه في دمشق، تلك التي كان سكانها 700 ألف نسمة عام 1950، صارت 5 ملايين مطلع التسعينات، و7 ملايين عام 2011.

وشهدت سورية موجات جفاف شديدة مع بداية الألفية الثالثة، وترافق ذلك مع تغيرات بيئية واقتصادية وديموغرافية هائلة أنتجت مشهداً آخر: نهر جاف وبساتين ميتة، مقابل زيادة في الطلب على المياه في العاصمة وضواحيها، وسوء إدارة حكومي للموارد المائية، وسوء في توزيع التنمية والاستقرار السكاني.

تفاقم المشاكل سبقه استملاك واسع النطاق لأراض زراعية يملكها أهل الوادي بدأ أواخر السبعينات، وأثر في الإنتاج الزراعي هناك فأرخى بظلاله على التركيبة الديموغرافية في المنطقة. هجر كثرٌ من المزارعين الذين فقدوا أراضيهم مهنتهم، وتحولوا إلى أعمال أكثر ربحاً كالتهريب الذي ازدهر أيام الحرب الأهلية اللبنانية عبر ممرات غير شرعية في رعاية رموز الوصاية السورية في لبنان. كل ذلك ترافق مع قمع كل أنواع التعبير، وفساد في كل مستويات الإدارة.

ناشد وجهاء الوادي طوال عقدين السلطات لاستعادة حقوقهم في الماء والأرض، لكن من دون جدوى. انقطاع متكرر في المياه ومحدودية في توافر المياه النظيفة، إلى جانب بطالة ترتفع باستمرار، وازدهار لعمليات التهريب بالتحالف مع مافيات داخل النظام.

استملاك لأجل «المصلحة العامة»

حتى بداية الثمانينات، امتلكت عائلة سمر نحو عشرة هكتارات جنوب الوادي. كانت الأراضي القريبة من ضفة النهر مزروعة بالأشجار المثمرة والمحاصيل المروية من فاصولياء وبازلاء وذرة وبندورة وخيار. أما الأراضي البعيدة قليلاً عن النهر صوب الجنوب، فكانت تزرع بمحاصيل بعلية كالقمح والشعير والحُمُّص والعدس وأشجار التين والزيتون. تقول سمر أن جدّها عمل بصبر للعناية بتلك الأراضي لأكثر من 60 عاماً. لكن الجدّ توفي في بداية الثمانينات حين استولى الجيش على معظم الأراضي من دون أن تكون لديه فرصة لرفع شكوى للقضاء. «حولت الحكومة أراضي العائلة المستملكة إلى مناطق عسكرية مطلّة على الوادي وتنطلق منها القذائف والصواريخ على الوادي منذ عام 2011».

«من كان يجرؤ على قول لا أيام حافظ الأسد»، تقول سمر. «لم تكن دماء مجازر حماة قد جفّت بعد، وكان إمداد وجود الجيش في لبنان معتمداً على ريف دمشق، وألقى بظلّه على المحافظة كلها. وعاش الناس رعب سرايا رفعت الأسد وضغط الحصار الاقتصادي. كانت الناس تريد سلِّتها بلا عنب».

وحالُ جدّ سمر لم يكن استثناء. إذ ضاعت أراضي عشرات قرويي الوادي في تلك الفترة في حملة استملاك واسعة النطاق في الريف الدمشقي.

انتفاضة وإدارة

مع بدء التظاهرات المناهضة لنظام الرئيس بشار الأسد في آذار (مارس) 2011، أوفد النظام العميد عصام زهر الدين، من الحرس الجمهوري، لمخاطبة الأهالي بعد أسبوع على التظاهرة الأولى في الوادي. وفي جلسة جمعته إلى بعض وجهاء المنطقة والمحتجين، كانت ملفات نهر بردى ومياه الشرب النقية واستملاك الأراضي والتعويضات المناسبة على طاولة النقاش.

لكن المسألة اليوم مختلفة، فقد تلاشت تلك الملفات على مدى خمس سنوات من الحصار والتجويع والمواجهات العنيفة بين الجيش النظامي و «حزب الله» من جهة، وثوار وادي بردى من جهة ثانية. فضلاً عن قتل النظام المدنيين في الوادي بسيارات مفخخة وبالقصف بالبراميل المتفجرة والصواريخ والقناصات.

وغني عن القول أن النظام ترك الوادي يرزح تحت وطأة عمليات القتل وقطع الرؤوس والأيدي التي قام بها «داعش» في الوادي، إلى جانب عمليات الخطف والسطو والقتل التي أدارها سُجناء سابقون أخرجهم النظام بمراسيم عفو رئاسية.

وقضى تحالف «جبهة النصرة» و «أحرار الشام» و «الجيش الحر» على خلايا «داعش» في الوادي المحاصر في شباط (فبراير) الماضي، فيما هرب عدد منهم إلى لبنان على رغم سيطرة «حزب الله» والنظام على الحدود السورية - اللبنانية.

من المرجح ألا تتغير طريقة إدارة الموارد في سورية قريباً ما دامت محكومة بالعقلية ذاتها التي أوصلتها إلى ما هي عليه. ومن المرجح أن تكون لذلك عواقب وخيمة على وفرة المياه في دمشق وريفها، خصوصاً إذا ما ترافق ذلك مع تغيرات مناخية في غير مصلحة مواردها المائية.