التاريخ: أيلول ١٥, ٢٠١٦
المصدر: جريدة الحياة
مصر: المحليات تتقاذفها رياح التأجيل والتسويف وأحلام التحسين
القاهرة – أمينة خيري 
هذه اللوحات الانتخابية الشحيحة التي تسللت إلى عدد من الشوارع، لا سيما في المناطق الشعبية معلنة عن تهنئة فلان الفلاني لسكان منطقته الفلانية في مناسبة عيد الأضحى المبارك واعداً إياهم بتقديم خدماته، وحل مشكلاتهم، وسماع صوتهم، وتنفيذ متطلباتهم، لم تلفت انتباه الغالبية. صحيح أنها أثارت استغراب البعض، وتسببت في استهجان البعض الآخر، لكنها مرت مرور الكرام وتظل حتى اللحظة تتقاذفها رياح أيلول (سبتمبر) مرة تجاه السماء حيث مواعيد انتخابات في علم الغيب، وأخرى صوب الأرض حيث واقع أليم قوامه موت سريري للمحليات وانعكاس واضح وصريح لفسادها وإفسادها على مدى عقود حتى باتت كلمتا «محليات» و «فساد» مترادفتين متطابقتين متسببتين في الصداع نفسه في رأس كل مصري.

المصريون بفئاتهم وطبقاتهم واختلافاتهم يتعاملون مع الانتخابات البلدية (المحليات) باعتبارها شراً لا بد منه، وغضباً من السماء يُكفرون به عن أخطائهم، وشوكة في حلوقهم رغم أنوفهم. فهي الجهة المنوط بها تنظيم شوارعهم وأحيائهم، بدءاً بالمرافق من مياه وكهرباء وشوارع ورفع قمامة وغيرها، مروراً بإصدار تراخيص البناء وتنظيم والمراقبة على مواقف سيارات النقل الجماعي، وانتهاء بإشغالات الطريق، وجميعها يمس التفاصيل الدقيقة لحياة كل المصريين.

هذه التفاصيل ذاتها هي التي حولت حياة شريحة عريضة جداً من المصريين إلى جحيم لا يطاق، وفوضى خرجت على السيطرة، وفساد وإفساد في كل كبيرة وصغيرة بدءاً بإتاوات يدفعها سائقو الميكروباص (الخارجون على القانون أصلاً) مروراً بتراخيص البناء المخالف وهدم الفيلات التاريخية وبناء العمارات القبيحة، وانتهاء بتلال القمامة وجموع الباعة الجوالين والاستيلاء على الأرصفة ونهر الطريق تحت رعايتها وفي حمايتها.

حماية المواطنين من المحليات كانت حُلماً داعب كثيرين على مدى أشهر طويلة سابقة، ظلت خلالها أخبار قرب انتخابات المحليات، وبشائر ضلوع الشباب، ووعود دحر الفساد، وأحلام توفير الملايين المهدرة في رشوة مسؤوليها وإبعاد مختلسيها وإقصاء مهدريها تداعب العقل الجمعي وتدغدغ الأمل الشعبي. فوفق تقرير صادر عن «ملتقى الحوار للتنمية وحقوق الإنسان» تحت عنوان «الفساد في المحليات: غياب الضمير وانعدام الرقابة» أهدرت المحليات أكثر من 494 مليون جنيه في النصف الأول من العام الحالي. كما بلغ مجموع الأموال المختلسة والرشاوى نحو 17 مليون جنيه، وعدد حالات الفساد المبلغ عنها نحو 93 حالة.

حالة المحليات لا تحتاج الكثير من الدراسات والتقارير والاستقصاءات، فقلما تجد شخصاً في مصر لم تلسعه نيرانها أو تطله شظاياها أو يفلت من براثن رشاواها وأنياب فسادها وتغوّلها وتحكّمها وخروجها على القانون، وهو ما أعطى للمحروسة واجهتها العشوائية في السنوات الماضية. وبين «عائمة على بحر من الفساد» و «فسادها أصبح قانوناً» و «المحليات والفساد يد واحدة» يتحدث المصريون عنها، بينما الأخبار تتواتر وتتوالى على مدى الأشهر الماضية عن عقد الانتخابات أول نيسان (أبريل) أو منتصف أيلول (سبتمبر) أو آخر كانون الأول (ديسمبر) 2016، وأحزاب تجهز كوادرها لخوض الانتخابات على كل مقاعد المحليات، ووزارات تعقد دورات لتأهيل النساء والشباب للفوز في هذه الانتخابات، وحوارات وسجالات تحت قبة البرلمان حول نصوص قانون الانتخابات وتعديلات هنا وتغييرات هناك، ومطالبات ومناشدات بالتعجيل بالانتخابات إنقاذاً للمواطنين من بحور فساد وتراخٍ وبلادة المحليات العاطلة، إذ بالخبر الصاعقة ينزل على رؤوس الجميع بتأجيل انتخابات المحليات لأجل غير مسمى.

وتتوالى التكهنات المتضاربة حول عودة البرلمان بعد العيد لمناقشة قانون المحليات للإسراع في إجراء الانتخابات، أو توقع عقدها مع نهاية عام 2017، أو التأجيل لمنع تسلل الإخوان، أو إجهاض اندساس الفلول أو سرعة تجهيز الكوادر. ويتوالى أيضاً مسلسل إحباط المواطنين وحلقات تفريغ التحركات من المضامين، حيث يسود الشارع شعور من الإحباط بسبب تواتر الضرائب الإضافية والجديدة والمستحدثة، وفرض الزيادات العتيدة في فواتير الغاز والكهرباء والماء، وترك المواطن لقمة سائغة بين براثن التجار والمتحكمين في الأسواق، والتهيُّب مما هو آت على صعيد الاقتصاد وتفاصيل المعيشة اليومية.

وكانت المحليات وقدرتها على تحسين تفاصيل الحياة اليومية أملاً متبقياً يداعب البعض، حيث حلم بشارع خالٍ من القمامة، أو رصيف خاوٍ من الإشغالات، أو عمارات خرسانية غير قابلة للانهيار، أو فيلات تاريخية لا تهدر من أجل ناطحات السحاب، أو مواقف سيارات نقل جماعي لا تنتهك آدمية الجميع.

لكن الأمل تبدد، أو تأجل لنهاية العام الحالي، أو أول العام المقبل أو آخره، أو لأجل غير مسمى، حيث يتوقع أن يُستَأنف المشهد بعد انتهاء عطلة العيد وعودة النواب تحت القبة في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل باتهامات من البرلمان للحكومة بالتأجيل لعدم إرسال نص القانون المقترح، ورد الحكومة بنفي التسويف وأن القانون في حاجة إلى ضبط زوايا المواد وتنقيح شروط الترشيح ووأد المحسوبيات والعصبيات، وإعلان الطوارئ ثم فضها في دوائر الأحزاب، أملاً بالسيطرة والهمينة على المجالس المحلية حال الدعوة لانتخاباتها، واشتياق المرشحين المحتملين، وتعليق اللافتات وإرسال الرسائل النصية القصيرة لأهالي المنطقة المعلنة عن حب عميق للعمل التنموي، وشغل أكيد لخدمة المجتمع المحلي، والغوص في بحر المحليات، وإن بقيت مقوماته في علم الغيب سواء كانت فساداً أو إصلاحاً.