التاريخ: تشرين الثاني ٢٢, ٢٠١٠
 
العلمانيـة وحقـوق النسـاء

عاهدة طالب

 

تحت عنوان العلمانية وحقوق النساء أردت استحضار المشكلة الأزمة «انحسار الخطاب العلماني في عالم عربي يعاني من أزمة بنيوية تتصاعد وتهدأ، تشتد وتخفّ لكن صفتها الأهم ديمومتها...».
حتى زمن قريب شكلت الأزمات الحادة دافعاً للتغيير الثوري. أما اليوم فالأزمة التي تطال عندنا، الأمن والسياسة، الحريات العامة والخاصة، الحقوق الأساسية للمواطن والمواطنة، لا يبدو أنها تحرك ساكناً باتجاه أي تغيير إيجابي... وما نشهده ليس إلا مزيداً من النكوص إلى مراحل سالفة سمتها العامة الحدّ من فرص التطور الديموقراطي وتعبئة المشاعر والعصبيات الدينية والمذهبية مما يؤدي إلى التطرف والإحباط والعودة إلى صيغ سلفية متطرفة في عدائها لقيم الحداثة.


يصاحب ذلك يأس من النضال السياسي المرتكز إلى مبادئ علمانية مما يخلي الساحة أمام الاتجاهات الأصولية التكفيرية منها والإصلاحية التي تطلق صفة الصحوة على النكوص المشهود والمتنامي.
وإذا كانت هذه الحركات في مختلف تجلياتها تتخذ من السياسة ميدانها المباشر إلا أن مدارها يتخطى السياسي إلى ما هو أبعد وأعمق، إلى الثقافي والإنساني... الذي ينحو إلى تأبيد الثبات باعتباره هوية غير قابلة للخرق على حساب الصيرورة والتحول.


من تجليات هذا الواقع ظاهرة النقاب الذي يحجب المرأة عن الرؤية على نحو تام ويكرّس مجتمعاً ذكورياً بطريركياً كالحاً، فهو لم يحظ بالحضور اللافت في المشهد العام سوى في أعقاب ما سمي «بالصحوة الإسلامية» التي عمّمت نموذجاً نكوصياً خطيراً عن الإسلام في كل مناحي الحياة... وغدا حجاب المرأة ونقابها هوية وعلامة على سياسة اجتماعية مستجدة وعلى خطاب ثقافي وسياسي...
هنا نقول: أين النقاش المدني النقدي؟ وأين الخطاب العلماني من هذا الموضوع؟


ما نراه اليوم هو تراجع عن طروحات وسجالات سابقة. فقد عرفت نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بروز فئة من المثقفين الحداثويين حيث كانت الثقافة العلمانية قد تغلغلت حتى إلى طليعة المفكرين الإسلاميين الإصلاحيين.
وكانت المؤلفات والنقاشات والسجالات حول حقوق المرأة والحجاب والسفور تأخذ مداها الواسع. في ذلك نذكر:
- كتاب نظيرة زين الدين «السفور والحجاب: محاضرات ونظرات في تحرير المرأة والتجدد الإسلامي» الذي حظي بتأييد عدد كبير من الدوريات والشخصيات مثل: هدى شعراوي، علي عبد الرازق، أمين الريحاني، خليل مطران، الزهاوي، الرصافي...
- كتابي قاسم أمين «تحرّر المرأة» و«المرأة الجديدة».
- كتاب الطاهر الحداد «امرأتنا في الشريعة» حيث ورد فيه:
«... ما أقبح ما نوحي به إلى قلب الفتاة وضميرها إذ نعلن اتهامها وعدم الثقة بها إلا في الحواجز المادية التي نقيمها عليها، ونلزمها هي الأخرى ايضاً أن تقتنع بما قررناه راضية بضعفها إلى هذا الحدّ، موقنة بخلوده الآتي من أصل تكوينها». (1)


هذا دون إغفال التحركات التي قامت بها بعض النساء الفاعلات، فكانت في مصر أول مظاهرة نسائية بقيادة صفية زغلول وهدى شعراوي لنزع الحجاب.
لم يكن الحجاب موضعاً للنقد فقط، إنما أيضاً حرمان النساء من التعليم وتعدد الزوجات وتفرّد الرجل بالطلاق، وعدم المساواة في الميراث والشهادة حتى هضم الحقوق في الجنة، إذ تساءل الزهاوي عن «سبب انفراد الرجال بالأعداد الكبيرة من حور العين بينما ليس للمرأة أن تستمتع إلا بزوجها».
من المعروف أن تحرر المرأة ارتبط بالعلمانية الراديكالية برابط طبيعي هو عدم قابلية الحرية للتجزئة، وهذا ما تجلى في التطور الذي شهده وضع النساء مع تنامي الأحزاب السياسية ذات المرتكز النظري العلماني حتى ما قبل نهاية القرن العشرين...


في ذلك نقول إن العلمانية حاجة للمجتمع العربي عموماً وللنساء خاصة. ولكن في الوقت الذي لا يكف فيه الفكر الديني، وأحياناً بأشكاله الأشد أصولية وتطرفاً عن توسيع دائرة نفوذه واكتساح حقول جديدة من الممارسة المجتمعية، تراوح العلمانية مكانها ويكاد ينحصر تناولها في مجالات معينة بين أوساط المهتمين فقط.


لذلك أسباب عدة، ولعل جزءاً رئيسياً من مشكلتها وعدم رواجها هو التباسها كمفهوم. هذا الالتباس الذي يعود إلى الحرب الشعواء التي خيضت ضدها من قبل بعض المتدينين والمتضررين، فكانت إما الإلحاد وإما أنها استجابة فكرية لواقع عاشته أوروبا في مواجهة الكنيسة. وهذا ما اعتبر أنه لا ينطبق على الواقع العربي.
العلمانية ليست بهذه الميكانيكية، بل تتعلق بتحوّل تاريخي يطال وعي المجتمعات وبُنياتها وأساليب تنظيمها.


وهنا أردت أن أذكر تعريف صادق جلال العظم الذي كما أعتقد يتجاوز التعريفات الضيقة التي تربط العلمانية بالدين أو بالتجربة التاريخية لهذا البلد أو ذاك. فالعلمانية بالنسبة له هي:


1- فكرة الحياد الإيجابي للدولة إزاء الأديان والمذاهب والطوائف... مع توفير الأطر المرجعية المحايدة للحوار فيما بينها.
2- الأرضية العمومية للمصالح الاجتماعية المشتركة التي يمكن الاحتكام إليها عند الضرورة.
3- فكرة المساواة بين المواطنين جميعاً أمام القانون، ومساواتهم في الفرص والمسؤوليات والواجبات والحريات بغضّ النظر عن طبيعة قناعاتهم الدينية أو غيابها..
4- فكرة حرية الضمير والمعتقد وصيانتها للجميع وفقاً لقدرات كل إنسان.
5- المقولات الكلية والتصورات المعرفية العابرة للخصوصيات الدينية...

بناء على ما تقدم، نستطيع القول إن العلمانية هي:


أولاً: مفتاح الحداثة وشرط مرافق لنشوء الحضارة المادية... لكن هذا لا يعني سيطرة القيم المادية المتعلقة بإرضاء الحاجات الجسدية كما يشوّهها المعترضون، بل الحضارة التي تفترض نشوء قيم إنسانية، وتطوراً لمنظومة الحقوق والحريات التي تركّز على احترام الفرد لذاته بصرف النظر عن اسمه وجنسه ودينه وعشيرته...
إنها المبدأ الذي يفصل بين المؤمن والمواطن... فالمؤمن يمارس إيمانه الفردي في جامع أو كنيسة أو كنيس، فيما المواطن والمواطنة يمارسان مواطنيتهما، حقوقاً وواجبات، في حدود الوطن كله ومن دون تمييز.
فالعلمانية... موقف إنساني متحرّر من قيود مسبقة موروثة من مفاهيم وعادات دينية أو مذهبية أو إيديولوجيات مرصوصة المفاهيم.


ثانياً: لا يمكن التطرق إلى العلمانية إلا من خلال القبول بمبدأ الحرية: حرية الإيمان، حرية الفكر، حرية المعتقد، حرية التصرف، حرية السلوك، حرية سنّ القوانين وحرية اختيار السلطة ومحاسبتها. وفي ذلك لا يمكن تجزئة الحرية، فالقول بحرية الفرد تعني حكماً تحرر المرأة.
ارتباط العلمانية هذا بالحرية وبالحداثة يستتبع القول بعدم وجود دولة حديثة دون مرتكزات أساسية أهمها: فصل السلطات، ضبط المسؤوليات، وبناء المؤسسات خارج أطر العلاقات الشخصية والقرابة وخارج كل أنواع التمييز العرقي أو الطائفي أو الجنسي.


إذ لا يمكن بناء حياة سياسية على اساس مفهوم الراعي والرعية ومفهوم الطاعة الأبوية منها أو الدينية، الأمر الذي يلغي مفهوم المواطنة ويضع النساء - بالاستتباع - خارجاً.
ولا يمكن إقامة منظومة قانونية مع التمسك بالمنظومة القيمية والقانونية التقليدية كالتي تشرّع ختان البنات باسم التقاليد الفرعونية، والتي تسمح برجم الزاني والزانية وغيرها من العقوبات البدنية باسم الشريعة.


وأهمها التي تلحق قوانين الأحوال الشخصية بالطوائف والأديان والتي ترفض بدورها رفضاً عصياً أي تبدل أو اجتهاد... وهذا ما يشكل السياج الخفي لبطء تقدم النساء وللتناقضات الكبرى التي تعاني منها اللواتي قطعن أشواطاً في حياتهن العملية والعلمية...
إن قضية المرأة في هذا السياق قضية محورية والعقدة التي يؤدي فكها إلى فكّ عقد اجتماعية كثيرة.
إذن للمرأة مصلحة كبرى في العلمانية... المرتكز الأساسي لشرعية حقوق النساء والمواثيق والعهود الملحقة بها.
فالتزامها مبدأ الحرية يشرّع أمام النساء عملية التحرر من القيود المفروضة، باسم الشرع والتقليد والاجتهادات التحريمية التي تضعها دون الرجل والتي حوّلت التمييز الموقت إلى مطلق أبدي...
وبالتزامها مبدأ المساواة تصبح المرأة مواطنة قولاً وفعلاً ومشاركة في اتخاذ القرار في السياسة، في الاقتصاد، في العمل وفي قرارات السلم والحرب...


وباعتماد الدولة المحايدة عن الطوائف والمذاهب والأديان، يكمن الإنقاذ الحقيقي من أشكال الصراعات والحروب الفئوية كافة، حيث تشكل النساء والأطفال الضحايا الأبرز لها، وبالتالي نكون أمام دولة المواطن.


وفي ذلك نذكر قول كنط في كتابه «مشروع للسلام الدائم» سنة 1795: «الوطن الذي لا يكون الفرد فيه مواطناً يتقرّر الحرب فيه بأقل قسط من التدبّر والتفكير».
1ـ الحداد «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» ص: 183-184