التاريخ: كانون ثاني ١٧, ٢٠١١
 
مثقفون جزائريون يقرأون الانتفاضة التي شهدتها مدنهم

الإثنين, 17 يناير 2011

الجزائر - بشير مفتي


عرفت الجزائر خلال ثلاثة أيام فقط انتفاضة شعبية انطلقت شرارتها عند رفع الحكومة أسعار بعض المواد الغذائية الأساسية كالزيت والسكر. وهي البادرة التي أشعلت الفتنة في الشارع وحركت الآلاف من الشباب في معظم المدن الجزائرية الكبرى مثل الجزائر العاصمة، وهران، قسنطينة والصغرى كمدينة تيبازة، ورقلة، المسيلة وغيرها... خرج هؤلاء الى الشارع وراحوا ينددون بالظلم الاجتماعي. لكن ما ميز هذه الانتفاضة هو عدم تبني أي طرف سياسي أو إيديولوجي/ ثقافي لها، واحجامها الغريب عن رفع أي شعار. لكنها لم تتمالك عن تخريب أو تدمير بعض القطاعات بما فيها مباني الحكومة والمدارس والمؤسسات الخاصة مما جعل الحكومة تتراجع بسرعة عن رفعها للأسعار. وفي ظل هذا التوتر المفاجئ توجهت الأنظار نحو المثقف الجزائري وغياب صوته كما كان يحدث في سابق السنوات، وهو الأمر الذي دفعنا لمحاولة فهم هذا «الغياب» من جهة، ويرجعه غالب من تحدثنا معهم الى أن صوت «المثقف» مغيب شأنه شأن المجتمع المدني والمعارضة السياسية، وأن هناك تجاهلاً كبيراً لدور المتعلمين، على رغم أن الجزائر تفتخر بأن عدد الطلاب فيها يبلغ رقماً عالياً ولكن بالموازاة مع تسرب طالبي خطير يحدث كل سنة. لكن الهوة صارت تتسع بين ذوي المال والثروة والطبقات الفقيرة المسحوقة، وفي مجتمع اللامساواة صار من الصعب تجنب مثل هذه التوترات التي ليست غريبة عن الساحة الاجتماعية الجزائرية وهي عرفت دائماً صراعات بين الفئات العمالية والسلطة الحاكمة. لكن ميزة التوترات الجديدة أن قادتها شباب متبطلون عن العمل، وغالبهم لا ينظر الى المستقبل بعين متفائلة ويرى أن الحكومة لا تعمل على تغيير هذه الأوضاع بقدر ما تزيد من ترسيخ فقر الفقراء وغنى الأغنياء وهي حالة دامت فترة طويلة ولم يعد السكوت عنها نافعاً عند هؤلاء الشباب الذين لا يفكرون إلا في الهجرة التي منعت عنهم بقوانين تدخل السجن كل من يهاجر بطريقة غير شرعية.


أين هو صوت المثقف في هذه الأوضاع؟
هنا بعض الآراء التي جمعناها من كتّاب من مختلف الأعمار والمشارب.


يقول محمد شوقي الزين (مفكر وباحث في الفلسفة): «في إطّلاعي على الاحتجاجات الأخيرة في الجزائر (والتي تخلّلها للأسف التخريب) شدّني على الأقل عاملان: العامل الأوّل هو خلوّ الساحة من كل محرّك إيديولوجي، وكأنّها مسرح للفرجة يؤدّي فيها فاعلان دوريهما: الشباب الناقم في مواجهة قوات الأمن في سعيها للحفاظ على الممتلكات والأشخاص؛ العامل الثاني هو النضج في ما يخصّ استعمال القوة العمومية. إذ كان المراد تفادي أكبر عدد ممكن من القتلى وهو أمر رشيد ومحمود عكس ما وقع في أحداث تشرين الأول (أكتوبر) 1988. لا شكّ في أنّ لهذه الأحداث خلفيات اجتماعية حقيقية مثل غلاء المعيشة ودوام البطالة وانحسار الآفاق، لكن هناك مطلباً رمزياً يوازي هذه المطالب الاجتماعية ويرافقها في شكل ضمني وهو المطالبة بتوسيع نطاق الحريات الفردية والجماعية وفتح المجال السمعي - البصري في ما يخص الإعلام. أعتقد أنّ قطع «حبل السرى» مع التقاليد النظرية والسياسية والاجتماعية التي ورثناها من نظام الحُكم «على الطريقة السوفياتية» وقت تبنّي المشروع الاشتراكي منذ الاستقلال وحتى 1988 هو أمر عاجل، لأنّ هذه التقاليد التي لم نتخلّص منها كليّةً لا تتلاءم مع مجتمعنا المعاصر المكوّن في غالبيته من الشباب الذين هم «أبناء العصر» في فتوحاته الإلكترونية وآفاقه العالمية، بل وأصبحت العائق النظري والعملي للبلد. المزيد من الجهود الديموقراطية بإشراك الشباب في التنمية والمجتمع المدني في الحوار والاقتراح والمشاورة هي الحلول الحكيمة لتفادي أزمات ممكنة».

الودّ المفقود


أما إبراهيم صحراوي (ناقد وجامعي) فيقول: «الودّ مفقود بين السلطة وشرائح واسعة من المثقفين خصوصاً في أوساط الجامعيين وأهل الفِكر من ذوي الصِّدقية الفِكرية الأكاديمية داخلياً وخارجياً. الودّ المفقود بين النُّخب الثقافية والنُّخب السياسية هو أحد جوانب إشكالية السلطة والمثقف في العالم العربي عامة وعندنا في الجزائر خاصَّة. ويعود في جزء كبير منه إلى النفور والريبة والتجاهل (واللااعتبار) المتبادلة بين الطرفين بسبب التمثيلات التي هي لكل منهما عن الآخر والتي لا تتوافق بطبيعة الحال مع ما يريده كلُّ منهما من الآخر أو ينتظره منه. تمثيلات صنعتها تراكمات وترسبات تكونت على مدار عقود طويلة لا سيما في عهد الاستقلال. المثقفون (باختلاف مرجعياتهم الفكرية واتجاهاتهم الإيديولوجية) يشعرون بأنهم مُغيبون تماماً في كل المستويات خصوصاً التنفيذية والتشريعية وحواشيهما. ويرون بأن السلطة لا تتيح لهم ما تتيحه لغيرهم من إمكانات وفرص تعترف لهم عبرها بدورهم الريادي المفترَض في قيادة المجتمع (وفئاته الشبابية خصوصاً) ثقافياً وفكرياً وتأطيره قيمياً ومفاهيمياً (من القِيم) مُفضِّلة عليهم في هذا المجال فئات أخرى (كالرياضيين – مثلاً - عامة، وكرة القدم تحديداً) تصرف عليها بلا حساب، بينما تُقتِّر عليهم وتُغلق في وجوههم منافذ التعبير الحرّ ومنابرَه. فيٌصعُب عليهم تبعاً لذلك احتلال مكانتهم المفترضة معنوياً ومادياً (من ذلك مثلاً نضال المدرسين من المرحلة الابتدائية إلى الجامعية والمطالب المرفوعة). شرائح واسعة من المثقفين (باستثناء مُثقَّفي السراي وأنصاف مثقَّفيه وأنصاف المفكٍّرين وأشباه الكتاب من المنافقين والانتهازيين والوصوليين والمتملِّقين) غير راضين عن تسيير السلطة للشؤون العامَّة فضلاً عن اعتقادهم بتعسُّفها في تسيير شؤونهم هم، ولهم عليها مآخذ كثيرة في هذا المجال، وما تعامل السلطة مع أزمة اتحاد الكتاب منا ببعيدة. أما عن تجاهلها لنجاحات مثقَّفي الجزائر ومُفكِّريها في الصعيد الدولي واحتلالهم لمواقع متقدِّمة في الخارج فحدِّث ولا حرج».


ويرى محمد ساري (مترجم وروائي): «إن العنف الذي عاشته الجزائر في الأيام الأخيرة مع جميع مظاهر التخريب والنهب لا يفسّر إلا بعنف المدن. وهذا يعني أنّنا انتقلنا فعلاً إلى حياة المدينة بكل ما تمنحه من سهولة ورفاهية في العيش وتخلينا عن حياة الريف بشقائها وبساطتها المادية. هؤلاء الشبان أبناء المدينة بامتياز، يطمحون إلى رفاهية تعكسها صور القنوات التلفزيونية الأجنبية، ويريدون الوصول إليها بلا شقاء ولا عمل. غالبيتهم بلا مؤهلات علمية ولا مهنية، ويشتغلون في أسهل مهنة: البيع والشراء. يحتلون الأرصفة ويرتزقون بالتجارة غير المرخصة. يريدون رفاهية بلا تعب، مستعدون للسرقة والنهب. إن ثراء البلد الفاحش وأخبار اختلاسات الأموال العمومية والفضائح المالية التي تتصدّر صفحات الجرائد اليومية في السنوات الأخيرة غذى الإحساس بالظلم وخلق كراهية لرموز الدولة ومؤسساتها. البلد غني جداً، أصحاب المناصب العليا في الدولة يغرفون من الخزينة العمومية بلا حساب، فيما يبقى هؤلاء الشباب بلا عمل وبلا سكن وبلا ثراء. أصبح الجزائري البسيط مقتنعاً بأن الثراء في الجزائر ليس ثمار العمل وإنما نتيجة الاختلاسات والتجارة غير الشرعية والمضاربة. إضافة إلى أنّ رموز السلطة غالبيتهم من الشيوخ المرتبطين بثورة التحرير، ويوجدون على رأس السلطة منذ عشريات عديدة، ولا أمل في تركهم للحكم إلا بالوفاة. وهذا أيضاً يخلق إحساساً باليأس الكلي في أمل التغيير، مما يضاعف من نمو عاطفة العنف الداخلي كحل وحيد لتغيير الأشياء. والقطرة التي أفاضت الكأس هو منع السلطات للتجارة غير المرخص بها على أرصفة المدن وشوارعها ابتداء من رمضان الماضي.


ويقول الحبيب السائح (روائي وجامعي): «بقدر ما أنا أحس بالألم للخراب الذي طاول الممتلكات العمومية، وبالحزن على أرواح الضحايا الذين سقطوا، فإني أشعر بشيء عميق من الاعتزاز أرفع تقديره للشباب الذين عبّروا باحتجاجهم وغضبهم عن ارتباطهم بالجزائر أرضاً لهم ووطناً. لقد قالوا: ارفعوا أيديكم عنها! كفى فسادكم فيها! أفسحوا لنا كي نبنيها كما نحلم أن يكون وجهها! لسنا جائعين. أخطأ من توهم أننا قمنا من أجل الزيت والسكر. أعطونا حريتنا المصادرة! نطلب حقنا في الشغل، في الحياة الكريمة! نريد فضاء إعلامياً مفتوحاً على حقائقنا وواقعنا! وغير هذه المطالب التي، للأسف، ابتذلتها بعض وسائل الإعلام إلى حدها البسيط. ما حدث تعبير جلي عن حركية اجتماعية حيوية توجه تحذيراً جديداً للقائمين على تسيير شؤون الدولة بخصوص التوزيع غير العادل للثروة الوطنية، بل المجحف في حق غالبية الجزائريين. وهو رسالة أخرى إلى النظام تقدم له قراءة أخرى معاكسة ومغايرة تماماً للواقع الذي يقرأه بالسماع لا بالرؤية وذلك من خلال أصوات «الأحزاب» و «النقابات» المتحالفة معه والتي لا تظهر إلا في المناسبات المبرمجة».

غياب المجتمع المدني


ويرى عمر عيلان (ناقد وأستاذ جامعي): «إن غياب المكونات والقواعد الأساسية لحركية تنظيم المجتمع تفرز مسلكيات غير متوقعة وغير منتظرة وغير متحكم فيها. الجزائر لا تعيش في إيقاع طبيعي ولذلك لا نجد أن الأحداث الأخيرة يمكن تصنيفها في خانة الحراك الاجتماعي المنظم والممنهج وهذا بفعل غياب مجتمع مدني فاعل ومساير لحركة الاحتياجات الخاصة بالأفراد والجماعات. كما أن الانغلاق السياسي وفاعلية المثقفين في داخل الأحزاب وخفوت دورهم التوجيهي والتأطيري يجعل حركة الأحداث تتسم بالعشوائية في رصد الأهداف وقد تستثمر في غير وجهتها الفاعلة والمنتجة لقيم المواطنة والحرية والعدالة الاجتماعية».


المهدي ضربان (صحافي وروائي) يقول: «الغريب في الأمر، أن الشارع تحرك في الجزائر قبل أن يتحرك المثقف... المثقف بقى بعيداً عن أن يسلك مسلك رجل الشارع الذي عبر بطريقته الخاصة عن تردي الوضع بوسائط مختلفة، كان التخريب من سماتها الرئيسة. ولذا يمكن القول أن المثقف لم يؤسس حتى الساعة في الجزائر ذلك الرأي والموقف الذي يمكن أن يغيرا دفة السياسي، تماماً مثلما حدث في أكتوبر 1988 حينما غير الشارع الدفة السياسية، وأنجبت لنا ثورة الشارع التعددية السياسية. ولذا فما حدث أخيراً هو مؤشر آخر على أن المثقفين بقوا بعيدين عن فعل التغيير المجتمعي. الشارع أدى الى أن تستجيب الحكومة لكل مطالب الشباب وإن لم تكن واضحة. فكان الرد بتخفيض أسعار المواد الاستهلاكية ذات الطلب الجماهيري الواسع... ولذا حتى وإن لم يؤطر الشارع تلك النخب التي كنا نتمنى أن تدلي بدلوها في عملية التغيير، إلا أن السلطة استجابت لهموم الشباب. فمتى يحين الوقت كي يقوم المثقفون بتغيير الواقع العربي عبر تلك النزعة المطلبية التي لها من الدلالات المضمونية ما يجعل الواقع الحياتي يتغير جذرياً ما دام وقوده نخباً مثقفة لها مرجعية التغيير؟ ولذا أتصور أن النخب العربية ستبقى بعيدة كل البعد عن أن ترسم للناس ذلك الهوس الذي كنا نقرأ عنه في أبجديات الساسة عندما كانوا يتحسسون مسدساتهم عندما يسمعون كلمة مثقف، على حد قول غوبلز وزير الدعاية الألماني في عهد النازية. وكان لزاماً على المثقف العربي وكذلك المبدع أن يبقى منزوياً في مكانه قابعاً لا يتحرك. هو ينشد التغيير في القصص والروايات ولا ينشد التغيير عبر الواقع.


ويقول ابراهيم قرصاص ( شاعر): «أعتقد أنّ حالة الغضب والهيجان التي فجّرها الشباب الجزائري وطاولت المؤسسات العامة والخاصة، هي تعبير صارخ عن رفض التهميش والظلم الاجتماعي الذي أفرزته السياسة الرأسمالية الوحشية - ليس في الجزائر فحسب - ولكن على مستوى العالم. فالشارع العالمي يشهد ردود فعل عنيفة أحياناً ومسالمة في بعض البلدان التي لها تقاليد احتجاج واضحة. وليست مسألة ارتفاع الأسعار في الجزائر هي السبب الوحيد في غضب الشارع الشاب الذي فقد الثقة في مسؤوليه ومنتخبيه، فيما لا بد من تهدئة رصينة تستوعب من خلالها السلطة هذا الدرس الاجتماعي ولا بد من مراجعة عميقة، تشارك فيها النّخب المثقفة التي عليها تحمّل مسؤولياتها التاريخية كاملة، والبداية بترشيد توجهات الشباب للاعتماد على النفس والمشاركة في الحياة العامة. فهذا الجيل وقع فريسة بارونات المخدرات والتهريب ولا يكفي محاكمة المتسببين في تخريب الممتلكات، لأنه ليس حلاًّ دائماً، بل الحلّ الجذري في التضييق على لصوص الثروة، لأنّ الجزائري تعلّم الكثير من المحن وهو يتعلّم كلّ يوم ويتزايد وعيه بالأخطار المهدّدة لوجوده من الداخل ومن الخارج».


ويقول الطيب صالح طهوري (شاعر) ختاماً: «الأمر كما يبدو لي ليس غريباً البتة. كل الممارسات السلطوية كانت تدفع إلي. يمكن القول ومن دون أية مواربة أن سلطتنا صارت سلطة حماية الفساد الذي استشرى في كل القطاعات، باسم الثورة، وبدعوى أنهم من حرر الجزائر استولوا على كل شيء في وطننا. مع الملاحظة أن غالبية الجزائريين شاركوا في الثورة في شكل مباشر أو غير مباشر، وكأنهم يقولون لنا: افعلوا معنا مثلما فعلنا نحن مع الاستعمار.
معادلة بسيطة جداً... لكن حلها صعب جداً جداً».